الاثنين، 13 أبريل 2015

محمود البدوى فندق الدانوب








نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان




فندق الدانوب

        عدت إلى كونستنزا ، ونزلت فى " فندق الدانوب " مرة أخرى ، كما شاءت كاترينا ، على الرغم من أنه ليس من الفنادق التى تشتهى فى هذه المدينة ، فهو يبعد عن البحر ، ويبعد كذلك عن أنظار السائحين ، والجانب الأكبر من حجراته لا يدور مع الشمس ، ولا يشرف على مناظر خلابة ، وهو إلى جانب هذا يقع فى قلب المدينة ، وعلى خطى قليلة من الخط الحديدى ، فالمقيم فيه ينام على صوت العجلات وهى تدور على القضبان ، وينهض على صفير القطر وهى تبرح المحطة ..!
        على أن كل شيء يتحول فى نظرك إلى جمال وفتنة عندما ترى كاترينا .. تلك الفتاة الروسية الجميلة التى تعمل فى الفندق ..
        وكنت قد لبست حلتى وتهيأت للخروج عندما دخلت كاترينا غرفتى فحيتنى فى ابتسامة ساحرة ..! وهصرت ستر النافذة ، وقالت ووجهها مشرف على الطريق :
        ـ نمت نومًا عميقًا وحلمت بكاترينا كالعادة ..؟
        ـ أجل يا كاترينا .. وحلمت أننا نجرى على ساحل البحر فى كارمن سلفيا .. وأنت تطفرين من المرح وتقذفيننى بالكرة .. والآن هل تحققين هذا الحلم ..؟
        ـ ماذا ..؟ أتنزه معك ..؟ والعمل والفندق ..؟ أنا أمشى مع الشبان فى الطرقات ..!
        ـ طبعًا يا كاترينا .. أنت لا تمشين مع الصعاليك من أمثالى ..!
        ـ آه .. صعلوك .. ماذا تقول .. صعلوك ..؟ لا تقل هذا ..!
        ومالت بخصرها على مائدة صغيرة فى الغرفة وهى تهتز من الضحك وتزيح خصل الشعر المتدلية على جبينها .. وتمر بأناملها على فمها .. وقد تورد وجهها وأشرق محياها .. سكنت نأمتها .. وأخذت ترنو إلىّ وعلى وجهها سحنة الفتاة الريفية التى لا تعرف من صروف الحياة شيئًا .. وقالت بصوت حلو لين النبرات :
        ـ أنت لا تعرف شعور الفتاة يا شوقى .. كيف أخلع رداء الحياء وأمشى على شاطئ البحر شبه عارية وعيون الشبان تأكلنى ..؟ كلا .. أنا فتاة من أسرة روسية معروفة .. وأنت تقول لى هذا الكلام لأنك لا تعرفنى .. ترى أمامك فتاة فقيرة تعمل فى فندق .. هذا هو كل ما تعرفه عنى .. إفهم شعور العذراء يا شوقى ..!
        ـ طبعًا .. أنا أعرف شعور العذراء يا كاترينا .. ولكن هذا لا يمنعك من التنزه معى لترى الدنيا .. الدنيا ليست هنا فى هذا الفندق ..
        فاحمر وجه كاترينا .. وأسبلت جفنيها .. وغضت رأسها .. كطفل صغير ارتكب عملا يعده مزرياً .. ثم رفعت أهدابها وقالت بصوت خافت :
        ـ كيف أخرج معك بهذا الثوب ..؟ أنظر ..!
        ونظرت إلى ثوبها وكان يبعث على الرثاء حقًا ..!
        ـ أليس معك غيره يا كاترينا ..؟
        فغضت رأسها ثانية .. وانسدلت أهدابها على هاتين العينين الزرقاوين اللتين لا تعرف من أسرارهما وتعابيرهما شيئًا ..
        ورفعت جبينها وقالت ويدها على عاتقى :
        ـ أبدًا .. أنا فتاة وحيدة وفقيرة ..!
        ـ سأجود لك بثوب جديد يا كاترينا ..
        فاهتز جسمها .. كأن سيالا كهربائيا سرى فى ألياف لحمها .. وطوقتنى بذراعيها ..
     وقالت وهى نشوى طروب : 
ـ والآن .. سأجيء لك بالإفطار .. وسنفطر سويًا .. ولكن لا تأكل الطعام كله كما تفعل دائمًا .. ولا تدع للصغيرة المسكينة كاترينا شيئاً .. أوه .. أنت مروع ..!
***
        رجعت ذات ليلة إلى الفندق متأخرًا ، بعد أن قامرت وأفرطت فى الشراب .. لعبت الروليت فى الكازينو وخسرت كثيراً ، وطيرت الخسارة الأحلام من رأسى وصعدت درجات الفندق متثاقلا حتى بلغت غرفتى .. وقد خيم السكون العميق على الطابق كله .. وفيما أدير المفتاح فى الباب سمعت رنين قبلات فى إحدى الغرف .. ثم صوت ضحكات .. ضحكات كاترينا بعينها .. فلا أحد يضحك مثلها بقلب طروب .. وسمعت إثر ذلك صوتها وهى تتحدث فى همس .. وفتحت باب غرفتى ودفعته ورائى بغيظ وحنق ..
        وبعد لحظات فتح الباب برفق .. ودخلت كاترينا وهى تتثاءب وعيناها شبه مغلقتين .. كأنها مستيقظة من نوم عميق .. أو أفاقت فى التو من تأثير مخدر ..! وجلست على الديوان وهى تفرك عينيها ووضعت ساقًا فوق أخرى ، ومالت بجسمها إلى الوراء وقالت وهى أشبه بالنائمة أو الحالمة :
        ـ لماذا تأخرت هكذا ..؟ كنت فى الكازينو طبعًا .. لقد أبصرت بك ليزا مع بعض الغوانى ..
        فصمت ولم أجب .. ونظرت إلى هذه الفتاة وهى تتكسر وتتثائب ، وتتصنع التعب الشديد ، وتحاول الاستفاقة من النوم ، وقد كانت منذ لحظة فى أحضان رجل ، وحاولت أن أقرأ فى عينيها شيئًا ينم عن حقيقة أمرها فلم أستطع ..
        وجلست صامتة وهى تسارقنى النظر .. ثم نهضت ومشت إلى صوان الملابس وجاءت لى بجلبابى ، فتناولته منها ، ودفعتها عنى ، فابتعدت قليلا ولم تقل شيئًا ، وظلت هادئة ووجهها ساكن الطائر ، ونظراتها لا تتغير ..
        وقلت بصوت خشن ، وقد تحول بصرى عنها :
        ـ والآن أريد أن أنام يا كاترينا ..
        ـ ألا تريد شيئًا .. ؟
        فرفعت وجهى ونظرت إليها نظرة يتطاير منها شرر الغضب .. فوقفت فى وسط الغرفة أكثر من دقيقة وهى لا تبدى حـراكا ، ولا تحـرك ساكنًا .. ثم مشت متثاقلة إلى الباب ..
        وأغلقت الباب وراءها بعنف وغيظ ، ولا أدرى لماذا كنت أحمق إلى هذا الحد ..
        وذهبت مرة إلى مطعم من مطاعم السمك الفخمة فى شارع كارول لأتعشى .. بعد أن ترددت طويلا فى ولوج بابه .. وجلست فى ركن بعيد عن الخلق ، وأنا شاعر بالنفور والقلق .. ودرت ببصرى الحائر فيمن حولى .. كما ينظر الرجل الغريب إلى قوم لا يعرفونه .. وشد ما كانت دهشتى عندما لمحت كاترينا جالسة إلى مائدة فى وسط القاعة مع كهل أنيق الملبس رائع المظهر .. وكانت ترتدى ثوبًا من الحرير الفاخر لا ترى مثله إلا فى قصور الأمراء ..! ولما وقع نظرها علىّ ابتسمت ، وأحنت رأسها فى أرستقراطية أصيلة ..! ولمحت فى عينيها وهى تنظر إلىّ ذلك البريق الخاطف الذى يبدو ثم يختفى فى لمح الطرف .. ولا تعرف منه شيئًا على الإطلاق .. ونظرت إلى هيئتها وبزتها ، وقارنتها بالنساء الجالسات فى المطعم فإذا بها تبزهن جميعًا .. فهى آنق مظهراً .. وأحلى شكلا .. وأنضر وجهًا ..
     ورجعت أذكرها وهى فى ثوبها الأبيض البسيط فى الفندق كفتاة ريفية ساذجة يبدو لك من مظهرها أنها لا تعرف من شئون الحياة شيئًا .. وأدركنى العجب ..
        وغافلتها وهى تحادث صاحبها ، وانسللت إلى الخارج ..
***
        وعدت من بعض المراقص إلى الفندق ، فوجدتها جالسة فى غرفتى منكبة على المكتب تكتب رسالة ..! ورفعت وجهها لما شعرت بى .. وتوقفت عن الكتابة ونظرت إلىّ وهى باسمة .. ثم عادت تكتب ، وبعد دقيقتين طوت الرسالة وغلفتها وقالت :
        ـ إننى اكتب رسالة إلى صديقة عزيزة فى بلغراد .. هل رأيت ذلك العجوز الذى كان معى الليلة فى المطعم ..؟ إنه عمى ..!  جاء أمس من بلغراد ، وحدثنى عن مرض كاتوشنكا العزيزة ، فجلست أكتب إليها هذه الرسالة فى الحال .. إنها من أعز صديقاتى وقد طردنا الحمر معًا ، وكنا نعمل سويًا فى بودابست ، ثم طوحت بنا الأقدار .. ومازالت انحط حتى وصلت بى الدرجة إلى العمل فى هذا الفندق ..! هل تتصور أننى سأترك هذا اليهودى يحاسبك على هواه .. ويقدم إليك الكشوف فى آخر الشهر كأنك مهراجا من الهند .. كل شرقى عند هذا الرجل الجشع مهراجا .. لا .. أنت طالب مسكين يا شوقى ، عندما يجئ ديمترى ويدفع لك بهذه الأوراق ألقها فى هذه السلة .. سأحضر الحساب ، فلا تسل عن ذلك اليهودى يا شوقى ..!
        وكانت تتكلم بسرعة كأنها تتلو من ورقة أمامها .. ثم كفت عن الكلام .. ونظرت إليها فإذا بها ساهمة كأنها تفكر .. ولأول مرة أشاهد كاترينا تفكر فإن رأسها الصغير الجميل لا يتسع للتفكير ..
        وطوقتها بذراعى وقلت لها :
        ـ هل نذهب غدًا إلى إيفوريا ..؟
        ـ أجل .. ولكن ليس إلى إيفوريا .. أو كارمن سلفيا .. أو مامايا .. سنذهب بعيدًا بعيدًا عن كل هذه البلاد ..
        وكانت تحلم ، وما أعذب الأحلام فى رأس فتاة فى مثل سنها وجمالها .. وضممتها إلى صدرى فسكنت واستراحت ، وأغمضت عينيها نصف إغماضة ، ثم انتفضت فجأة واعتدلت فى جلستها وصاحت ..
        ـ ما هذا الجنون ..! أنت تعرف أننى عذراء .. أنت مروع ..!
***
وسافرت من كونستنزا إلى مدينة صغيرة على الدانوب ، وعدت منها بقطار بوخارست السريع إلى الميناء مباشرة .. ولم أشأ الذهاب إلى الفندق مخافة أن ألتقى بكاترينا فتبقينى أياما أخر ..
ولما اقترب موعد السفر ، صعدت إلى ظهر السفينة ووقفت على الجسر أرقب حركة المسافرين والمودعين ، وقد علت وجهى تلك الكآبة التى تعلو الراحل عن بلاد يحبها .. بلاد قضى فيها أسعد أيامه وأمتع لياليه ، وكانت الشمس قد غربت .. وبدت تلك الميناء الصغيرة تتلألأ فى غبش الغسق .. وأخذت أستعرض فى ذهنى الصور الجميلة التى مرت علىّ فى تلك البلاد .. مناظر سينايا الخلابة .. وشواطئ الدانوب الساحرة .. وحسان بخارست .. وغانيات كارمن سلفيا .. وفاتنات ممايا .. وفندق بولونا .. وفندق الدانوب .. وكاترينا .. أجل كاترينا واتكأت على السور الحديدى .. وعينى إلى الأفق .. وكل شيء يمضى سريعًا .. ولمحت فتاة تهبط المنحدر المشرف على الميناء ، وكانت تمضى على عجل ، وبصرها لا يتحول عن السفينة .. وفتحت عينى وتبينتها فكانت كاترينا ..
وقفت لحظة حائرة .. ثم نقلت بصرها فى الركاب .. ولمحتنى فجرت على الرصيف حتى وقفت أمامى وهى تلهث .. فنظرت إليها مشدوها وسألتها :
ـ ما الذى جاء بك ..؟ وكيف عرفت أننى سأسافر اليوم ..؟
ـ هذا سهل ..! دعك من هذا الآن كيف حالك ..؟ شد ما تغيرت ونسيت كاترينا المسكينة التى لا يذكرها أحد ..!
ولم أستمع لباقى حديثها .. فقد درت ببصرى فى الركاب لأحصى عدد الذين جاءت تودعهم كاترينا .. فلابد أن يكون منهم من نزل فى فندق الدانوب والتقى بها ..!
ورأت نظراتى .. وقرأت ما دار بخلدى .. فامتقع لونها وغضت طرفها .. ثم رفعت رأسها وقالت .. وقد اختلجت نبرات صوتها :
ـ شوقى .. هل تحسب أننى جئت أودعك .. كلا .. أنت مروع ..! إننى جئت أرقب هذه السفينة وهى مقلعة وسائرة برهة فى الطريق الذى تسير فيه السفن إلى وطنى .. سأركب هذه السفينة يوما ما .. وأعود إلى وطنى ، وأرى بافلوفنا .. وسونيا .. وأولجا مرة أخرى .. إننى أجيء إلى هنا كل أسبوع وأرقب السفن وهى مبحرة .. وأتخيل أن ذلك اليوم سيأتى ولابد أن يأتى .. فلا تحسبنى أننى جئت أودع الصعاليك أمثالك ..!
فاستغرقت فى الضحك :
ـ لا تقولى هذا يا كاترينا .. إننى مسافر اليوم وسأعود غدا لأراك ، ولابد أن نلتقى ثانية ..
ـ حقا ..؟
ـ أجل .. لابد وأن أعود فى العام المقبل ، وكل عام بعده ، لأرى كاترينا ..
ـ والآن أسكت واقترب .. أرأيت ..؟ إننا لا نستطيع أن نتصافح ، إنتظر لابد من ذلك ..
واحمرَ وجهها ولمعت عيناها .. وظهرت فى أبدع ما كونها الله .. وقد اختلجت شفتاها .. وتهدل شعرها .. ورف لونها .. وتورد خداها .. وعلت أنفاسها .. ومالت برأسها إلى الوراء .. وارتفعت بجسمها قليلا .. وانحنيت عليها .. والتقت يدانا وتصافحت أنفاسنا ..
ودوى صفير الباخرة .. وتراجعت كاترينا .. ووقفت جامدة كالتمثال وعيناها مخضلتان بمثل الدمع ..
وشيعتها ببصرى وهى تصعد المنحدر الذى جاءت منه ، ولكنها لم تكن تمضى مسرعة .. بل كانت تسير على مهل كاسفة البال حزينة .. كأنها استفاقت من حلم ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الرسالة بالعدد 398 بتاريخ 17/2/1941 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
========================






























سائق القطار
       ـ تشرب ..؟
       ـ لا .. وأشكرك ..
       فانحنى مساعد السائق ، ووضع القلة الفخارية المفحمة فى ركن من القاطرة ، وانتصب وهو يمسح بيده الماء السائل من جانبى فمه ، وتحول إلى النافذة وقال بعد أن لمح نور إحدى القرى :
       ـ الفكرية ..؟
       ـ آه ... ...
       ـ ... ... ...
       ـ فحم ... ...
       ففتح المساعد باب الفرن المستدير ، ورمق النار وهى تتضرم وتلتهب ، وطالعه وهجها وسعيره ، فارتد عنها وأمسك بمجراف الفحم ، وقوس ظهره وغيب طرف المجراف فى المخزن .. ثم استدار وتقدم خطوة وعينه على الباب .. ورمى النار بالوقود .. فخمدت جذوتها وتلوت ودخنت .. ثم شبت وامتدت السنتها على الحديد والتصقت بجدران الفرن .. ودارت على جوانبها وسقفها .. وزادها تيار الهواء ضراما وسعيرا ..
ورمى المساعد النار بمجراف آخر ، ثم راقبها لحظة ، وكأنه شعر بحاجتها إلى المزيد فرماها بمجرافين معًا ، وضم الباب بيده ، ونصب قامته ويده على مقبض المجراف ، وطرف كمه الممزق يمسح العرق المتصبب الملوث بغبار الفحم وقطرات الزيت ، ونزلت يده على جنبه وتنفس ، وقال فى صوت هادئ تشوبه بعض المرارة :
       ـ كل شيء تغير فى هذه الدنيا بعد الحرب .. حتى الفحم ..
       فسأل السائق ، وعينه على الطريق ، وظهره إلى مساعده :
       ـ لماذا ..؟
       فقال المساعد فى حماسة غير منتظرة ، وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق :
       ـ كان الفحم قوالب ضخمة .. كارديف .. وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها .. كنا ننزل القالب فى حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه ، ومثلها على جنبه ، فيتهشم ويتناثر ، فننضحه بالماء ، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة فى النار وننام على حسه ..!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه ..
       فتحول إليه السائق بجانب وجهه ، وبصره لا يزال عالقًا بالقضيب ، وقال باسما فى خبث :
       ـ تعبت ..؟!
       ـ تعبت ..!! لا يزال نور المنيا باديا .. رحم الله أيام الشباب كنا نعمل فى الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفا على الأقدام ولا نفكر حتى فى الطعام .. كان أحسن الله إليه ..
       وحبس سيل الكلام بعد ان بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار .. وسأله :
       ـ 59 ..؟
       ـ 8 ..
       ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك " بالأسطبة " وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ، ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس ، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة ، ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلا ففعل .. وهب البخار القوى من بوق القاطرة وهو يئز وينش ، وطار مع التيار ، ولما قفل المساعد المحبس ثانية ، رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة ، فعبس وكشر ، وصمت محنقا ، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق ..!
       وكان السائق واقفا عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق ، وهو يدخن ، وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ، ودرجة البخار ومقياس الطريق ، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة ، ويده فى سرواله الأزرق ، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوى البارز ، وعلى كتفه وفى طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح .
     وكان فى وقفته ساكن الملامح هادئ النفس ، ثابت الجوارح ، راسخ القدم ، فعل الواثق من نفسه وعمله ، وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح فى ذلك ..
       أما المساعد فقد مال بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم ، بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن ، وانطلق يدفع الدخان ويفكر ، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه فى حلته الزرقاء ..
     ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق ، انتصب المساعد وحدجه بطرفه ، وتحول إلى ظله الجارى على الأرض ، وأنعم فيه النظر فى سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات ، فرفع وجهه ، وكان السائق قد انحنى عليه وفى فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه ، وقد تلاقت أعين الرجلين واختلطت أنفاسهما ، ونظر المساعد فى حدة إلى عينى صاحبه العميقتين السوداوين ذواتى البريق العجيب ، وإلى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة ، وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل .. وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته .. شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى ، فتحسر وتقبض ، ولما ارتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه ، ويقارن بين جسمه القوى المصوب ، وبين نفسه ، وهو الناحل الضامر المعروق ، وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض فى مخيلته عمل كل منهما ، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها ، أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد .. وانطلق يحدث نفسه :
       ـ ما الذى يفعله هذا السائق .. يحرك القطار فى المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار .. ويمضى معظم الليل واضعا يده فى جيوبه يدخن .. ويتلهى بالنظر إلى الطريق ، وكل ما يعمله هو مراقبة عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق .. وبعض الأحيان يتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة ..!! ثم بعد هذا كله يلقى الأوامر .. غذ النار .. ند الفحم .. زيت الآلات .. أما أنا فأظل الليل طوله واقفا على باب جهنم أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها ، وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت ، حتى يلمع ويصقل ، وجسمى عليه ضعف قاذوراته .. وإذا وقف القطار فى المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيت العدد الصغيرة والدوافع والجواذب ، وأمسح معدن الذراع ، فحتى هذا يجب أن يكون لامعا ..! وإذا ملأنا مخزن الماء طوقت الخرطوم بذراعى ، ودفعته عن الخزان بجسمى فيصيبنى هاطله ، ويزيدنى بلاء على بلائي .. هذا هو عملى وعمله ، ومع هذا فأجره ضعف أجرى ويزيد ، وأوقات فراغى وراحتى ليست كأوقات فراغه وراحته .. وامرأته عاقر وامرأتى تجئ فى كل عام بمولود سعيد ..! وأولادى من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملأوا البطون بالطعام ، والسماء لا تجيب ..! وهو فارع قوى مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب ، وأنا قمئ ناحل معروق تقوست قناتى ، وشابت شياتى ، وأضحت جلدتى .. تتخدد .. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عنى .. ومن يدرى ..؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب فى ذلك ، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعاف المرضى المناكيد ، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى ، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا ، واتقت شرنا ، وأحنت لنا الرأس فسرنا فى مسالكها شامخين ..
       ـ فحم ..
       فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان ، وفتح باب الفرن ، وأقبل على النار يغذيها بالوقود ، وهو صامت صابر ..
***
       عندما جاز القطار محطة ملوى كان الليل قد انتصف واعتدل الجو ، وهب النسيم العليل من جنبات الوادى الخصيب ، فأثر هذا الجو الرخى المنعش على خواطر المساعد ، فخفف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه ، ووقف ينصت لدوى القطار وهو ينهب الأرض ويطوى القرى والدساكر .. وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام فى جوفه حتى بدت صامتة موحشة رهيبة ، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار ، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه ، يثرثر معه فى أى موضوع ، ويتكلم عن أى شيء ، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية ، فما كان يعنيه هذا ، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ، ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه ..
     وفتح فمه ثم أطبقه ، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت .. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن فى أذنيه التيار الشديد ، وسفى فى وجهه الغبار وجرى عليه دخان الفحم ، وسمع صفير قطار من بعيد ، فبقى فى مكانه ليحيى سائقه إن أمكن ..! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان ..
       فقال المساعد وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة :
     ـ 367 ..؟
       ـ نعم ..
       ـ من الأقصر ..؟
       ـ آه .. وخزن فى أسيوط ..
       ـ توفيق شاكر ..؟
       فهز السائق رأسه موافقًا ، وصمت المساعد لحظة كأنما يستعرض فى ذهنه صورًا باهتة يحاول بروزها ووضوحها ، وغير من نبرات صوته وهو يقول :
       ـ كان سائقاً للقطار 72 .. أنزلوه .. بعض الأحيان تتحكم الأقدار ..

       فلم يقل السائق شيئًا وأخذ يتمثل فى مخيلته صورة حادث توفيق كما سمعه من رفاقه .. ثم وضع يده على جبينه يتفرس فى الطريق ، يستشف الحجب ، ما وراء الغيب ، ما فى بطن الأقدار ..
       فقال المساعد وقد طاب له أن يجد ما يتحدث فيه :
       ـ كان خارجًا من ورشة سوهاج .. ليوصل القطار إلى الأقصر كانت السرعة أكثر من اللازم ، وكان العامل يتخطى القضبان .. توفيق نفسه لا يدرى كيف مات الرجل .. شهد عليه عامل " البلوك " واثنان من الخفراء ..
       فقال السائق وقد حز فى نفسه الأسى على صاحبه :
       ـ سئ الحظ .. وكان عليه أن يحاذر ..
       فقال المساعد بصوت وان :
       ـ يولد كثير من الناس ليموتوا تحت العجلات .. فما الذى يدفعه الحذر ، والسائق ، والكشاف ونور الكشاف ..؟ مرت على المرء كثير من الحوادث العجيبة التى تبعث على الدهشة والتفكير العميق ..
     كنا قد بعدنا عن ديروط وفلاح مسكين ، على جمله ، ينتظر مرور القطار ، ومر القطار وفزع الجمل ، ورمى الرجل تحت العجلات .. قد يكون مر على هذا الجمل مائة قطار وهو ساكن ثابت ، ولكنه جفل فى هذه المرة لسبب لا نفهمه ..
       فقال السائق وقد بدت على وجهه البشاشة :
       ـ ولكن إذا كان الفـلاح قد رد الجمـل عن حديد الممر وبعد به عن الشريط أكان يموت ..؟
       ـ كان لا يستطيع فى تلك الساعة أن يفعل ذلك .. كان لابد أن يموت فمات ..
       ومر القطار على حقل كبير من القطن وقد تفتح ونور ، فتحول المساعد إلى الحقل ، وراقب السائق مقياس الطريق لحظات ، ثم أدار المحرك إلى اليسار قليلاً ، فقد بدأ الوادى ينحنى والشريط يدور ، وكان يعرف هذه الطريق أكثر من موضع أنفه من وجهه ، وهدأت حركة الآلآت نوعًا ، ثم أرجع المحرك إلى مكانه بعد ثوان ، وارتد عن النافذة ووقف أمام الفرن ، وطرفه على الساعة والمقياس ، واستمر هكذا مدة ، ثم أدار المحرك إلى اليسار مرة أخرى فى شدة حتى تعدى الكثير من الدرجات ، فقد وصل القطار إلى طريق مرمم واهن لا تزال تجرى عليه أيدى العمال فى النهار .. ودار بخلده أن أحد العمال قد يكون ترك سهوا بعض الأدوات الحديدية على الشريط ، فمد بصره إلى نهاية نور الكشاف ، وثبت نظره على حديد القضبان .. وفكر فى نفسه أنه بعد نصف ساعة وستمائة ثانية سيدخل محطة أسيوط ، وسره هذا كما سره خروجه منتصرًا من الطريق المرمم .. وبعد أن لمح المقياس أدار المحرك بالتدريج إلى اليمين ، إلى نهاية ما تتحمله أرض النيل السعيد ..! وكان يود أن يعوض بتلك السرعة الجارفة ما قضاه وهو سائر ببطء على الطريق الواهن .. وانطلق القطار كالسهم يطوى القرى ويزلزل تحته الأرض ..
       وقال المساعد :
       ـ النيل عال .. وشديد ..
       فقال السائق وقد تحول بوجهه إلى النيل فرأى بعض المراكب الشراعية تسير مغالبة التيار :
       ـ أتخاف أن تتقطع الجسور ..؟
       ـ لا .. جسور القطارات هى آخر ما يصيبه الأذى دائمًا ..
       وبقى نظر السائق ثابتًا على النيل ، وقد راقه هول الليل عند الأفق البعيد ..
       وأطل المساعد من النافذة وبصره على الأرض الجارية .. وخيم صمت عميق ..
       وقال المساعد بعد دقائق بصوت يرتعش :
       ـ رجل ..!
       ـ ماذا ..؟
       ـ رجل تحت .. ال ..
       فتلفت السائق فى سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب فى غمرة الليل .. فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار فى حذر شديد .. وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه .. ثم حبس البخار .. وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد .. وقد أجبرت على البطء على غير انتظار .. ووقف وروحه تثور .. ونفسه حانقة ساخطة .. كان يود أن يدخل محطة أسيوط فى الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين .. منذ خمس سنوات لم يتأخر فى حياته مرة .. مرة واحدة .. كان دائما يحاذى الرصيف وعقرب الثوانى على الستين .. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالى على الإخوان ، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو المعروف بأنه المسيطر على الحديد والنار .. كان إذا تأخر فى أثناء الطريق يغذى النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة فى ميعاده .. ولكنه الآن سيتأخر .. لأول مرة فى حياته كسائق سيتأخر .. سيتأخر .. لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثًا .. بل أكثر من ذلك ، شعر بنفسه تذوب حسرات .. أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول .. كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات " البستون" .. تدوى فى أذنيه كالطاحون البالية ، كالمدافع المنطلقة على غير هدى فى وادى التيه .. أحس بدمه يفور .. وروحه تثور .. حتى عقدت جبينه السحب .. ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك ، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه .. أى مأفون هذا الرجل الذى عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة ..؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه .. وطحنته العجلات .. وجرى دمه مع الزيت .. فتفطر قلبه على الرجل المسكين .. ووقف تتملكه أعصابه الحديدية صامتًا .. حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطبل .. والبخار ينش ويئز .. والذراع يغلب ويجاهد .. ويطوح بنفسه فى ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر ..
       ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة ، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة ، وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً ، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق ، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوى عن العجلات الأمامية ، ثم يتراجع خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه ، وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط ، وكان لصوت قدميه دوى مسموع فى الليل الساكن .. وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على " الأسطبة " الملوثة بالزيت القذر ، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه :
       ـ لاشيء ..؟
       ـ لا شيء فى العجلات الأمامية ، وإنما أثر الدم واضح فى التروس الخلفية التى أخذ عندها الرجل ، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام ..
       فصمت المساعد كأنه يفكر .. ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذى فى يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ، ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعًا لهبات الرياح .. وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ، ولوث الكثير من جسمه ، فمسح الزيت فى سرواله ، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض ، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه ، واستدار ومد بصره ، وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ، ووجوههم إلى الخلف ، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض ، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع " الكمسارى " وحولهما بعض الناس ..
       واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برأيته ، فقال لمساعده :
       ـ اطلع ..
       فطلع المساعد إلى القاطرة ، ووضع المزيتة جانبًا ، وبعد السائق عن النافذة الخلفية ووقف أمام الآلة يحدق فى الساعة ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة فى بطء وثقل شديد ، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التى خلفها على الفارغ ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ فى سرعة وجنون .. وزفر القطار ، وأز البخار ونش ، وشال الذراع وحط ، وتحركت العجلات الأمامية ، ولامست العجلات التى خلفها القضبان ، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح ، وتقدم القطار فى بطء وحزن من غير صفير ..!
==========================
نشرت القصة فى مجلة الرسالة بالعدد 178 بتاريخ 30/11/1936 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
========================= 


ليلة فى الحان

تعترينى فى كثير من الأحايين حالات نفسية أضيق فيها ذرعا بنفسى ، وأحس بثقل الحياة علىَّ ، أحس بالبيئة الخانقة المهلكة تأخذ بمخنقى وتكتم أنفاسى ، وأشعر بأنى سجين معذب يعانى آلاما لا حد ولا نهاية لها ..
 تأخذ الدنيا الباسمة المشرقة تظلم فى عينيى ، ويستحوذ الضجر والقلق والنفور علىَّ ، وأحاول عبثا أن أعرف علة هذه الأحزان ، أحاول عبثًا أن أعرف الباعث الدقيق الخفى على هذه الأزمات الشديدة المضنية فلا أستطيع ولا أوفق ، ولا أزداد بعد البحث إلا غما وكربًا ..
فى هذه الأوقات العصيبة أشعر بحنين بالغ إلى التشرد ، أشعر بشوق ملح يحملنى على أن أتخطى القيود والموانع ، وأتحرر من الأغلال ، وأدوس بقدمى على التقاليد البالية ، فأبرح منزلى فى أى وقت من الليل ، حتى فى الساعات الأولى من الصباح ، وأجوس خلال الشوارع وأضرب بقدمى فى الأزقة الضيقة على غير هدى ولا دليل ولا قصد .. أرسل نفسى على سجيتها ، وأفتح صدرى لهواء الليل الساجى ، وأبعث بصرى فى قلب الظلام المخيم ، وأستأنس بالوحشة ، وأستريح إلى رهبة الليل وسكونه وهوله ، وأشعر بعد ذلك بالراحة التامة المطلقة ، أشعر بأنى غدوت حرًا طليقا يخرج بجسمه ونفسه وحسه عن الدائرة الضيقة المميتة ، ويحلق فى الفضاء الفسيح ..
أشعر بالسعادة العميقة تفيض على جوانحى ونفسى ، وأتقدم فى طرقات المدينة سعيدا جذلا طروبا ، ثم أخرج منها إلى أحضان الطبيعة وأتوغل فى أعماقها ، وأسير محاذياً للنيل ، وأعبر الكبارى والسدود وأجتاز الحدائق والبساتين ، وأنا ممتلئ نشاطا وقوة .. ثم أعود فى أخريات الليل إلى الشوارع الهادئة فى الأحياء الأفرنجية ، وأميل إلى حاناتها ، أغشى الحان الذى يروقنى لأريح جسمى ، وأهدئ من ثائرة جوفى بعد الرياضة الطويلة فى الخلاء ..
ألج أى حان من هذه الحانات الصغيرة التى تسدل على واجهاتها الستر الحريرية الزرقاء .. ويتعاقد فى سمائها دخان التبغ ، ويعبق جوها برائحة الكحول ، وأشعر فيها بأنى انتقلت عن هذا العالم الفانى بضوضائه وضجيجه وصخبه ، إلى حيث الهدوء التام ، والسكون الشامل إلى الحد الفاصل بين دار الأحياء والموتى أشعر بأنى قريب من الموتى من سكون الرمس ، حتى فى الساعات التى يرتفع فيها صوت السكارى وهم يتمايلون على الطاولة الرخامية ، ويرفعون عقائرهم بالغناء الصاخب ، راقصين ضاحكين مرحين ، حاسبين أن الدنيا بأسرها ترقص معهم وتغنى لغنائهم ، حتى فى الأوقات التى يفيض فيها هؤلاء المساكين بفنون الأحاديث ، ويتحدثون عن آلاهم وأحزانهم ، تحت تأثير عقلهم الباطن ، مع من يعرفون ومن لا يعرفون من الناس ، فى هذه الحانات الصغيرة تنمحى الحوائل والفوارق بين الناس ، ويشعر كل إنسان بأنه صديق حق لمن يجاوره ، فيحادثه ، ويكشف له عن مكنون صدره ودخيلة فؤاده .. أشعر فى هذه الأوقات شعورًا حقا بقيمة حياتى ، أشعر بأنى أعيش لنفسى ، بأنى وجدت فى هذه الحياة الدنيا لأنعم وأتمتع وألتذ بأطايبها وملذاتها إلى أقصى ما يتمتع به إنسان ، وأضحك مع الناس وأقهقه وأغنى ..
ودخلت حانًا من هذه الحانات الصغيرة فى ليلة من ليالى الشتاء ، وكان ضيقًا مستطيلا ونوره الأحمر خابيا كابيًا ، وهذا ، زاده فتنة فى ناظرى وسحرًا .. وكان خاليا تقريبًا إلا من بعض الشبان الفقراء .. جلسوا يحتسون الخمر فى ركن قصى منه .. وكان عند رخامة الحان الطويلة خمسة من الرجال من بينهم ثلاثة من ذوى الأسنان ، تعرف من هندامهم القذر ، وشعرهم المرسل على جباههم ، وعيونهم الحمراء الدامية ، أنهم غارقون فى الشراب إلى الأذقان ، وكان أقرب الجالسين إلىَّ شاب يرافق فتاة صفراء نحيلة من الفرنجة عليها طابع الهم والشقاء ، ويعلو وجهها ظل الموت الزاحف ، وكانت هى الفتاة الوحيدة فى الحان إذا استثنينا تلك الفتاة السمراء القصيرة الجالسة على الباب ، مستقبلة الداخلين ومشيعة الخارجين بابتسامة لا معنى لها ..
جلست فى ركن منعزل من الحان ، وأنا تعب مكدود معنى وطلبت كأسا من الخمر ، وشغلت نظرى بقراءة الأوراق الملصقة على الزجاجات الموضوعة على الرفوف أمامى ، كان القلق رغم المشى والتنزه فى قلب الطبيعة ، لا يزال يهيمن على كيانى ووجدانى ، ومضى علىّ أكثر من نصف ساعة وأنا جالس وحدى ، أفكر وأتخيل ، وأرسم على دفتر امامى دوائر وخطوطا واكتب بضعة أسطر وأمحوها ، وفرغت من شرب الكأس وطلبت غيرها ، بعد أن أحسست بالصداع يصدع رأسى ، وتراخت أعصابى وثقل جسمى ، فاضطجعت على الكرسى ، وأرسلت بصرى فى سماء الحان ، وأخذت استعرض فى ذهنى الحادثات التى مرت بى فى سنى حياتى ، وشغلت جانبًا من تفكيرى ووقتى .. فكرت فى الأصدقاء فى المدرسة ، فى رفاق الحداثة .. فى المخلوقات العزيزة الحبيبة التى يضرب ببننا وبينها الدهر ، ويبعدها عنا الزمن فى كل ما يسر ويسوء فى هذه الحياة الدنيا ، فكرت فى هذا كله ، وأنا أرفع عينى إلى سقف الحان ، وبصرى سادر حالم ، والكأس الدهاق يتصاعد منها الحبب ويرغو ..
وخفضت طرفى ونفضت به جوانب الحان ثم رددته إلى المائدة التى تجاور مائدتى ، فلمحت فتاة جالسة إليها ، وكان ظهرها إلىّ ووجهها إلى الباب ، فأبعدت وجهى عنها أول ما رأيتها .. فجيرتى لأى إنسان .. حتى وإن كان امرأة ، فى ساعة كهذه مما يزيد فى همى وشجنى ، ويرهف أعصابى .. وشعرت بعد دقائق بالضيق يشتد ويتمكن ، فرحت أنقر بإبهامى على المائدة ، وأدير الكأس فى راحتى ، وأوجه عينى الحمرواين إلى الباب .. وأود لو أنفذ من خلال الستر وأخلص إلى الطريق وأتسلى بالنظر إلى المارة ، ثم عن لى أن أغادر الحان وأستأنف تجوالى فى الطرقات .. فقد كان قلقى لا يحتمل ، كانت عيناى لا تقويان على المطالعة .. وشفتاى لا تستسيغان الكأس ، وأنفاسى لا تعب من جو الحان .. بيد أنى أحسست بخور وثقل فى جسمى ، وعجزت عن النهوض ، فاعتمدت بمرفقى على حافة النضد ، ووضعت رأسى على راحتى ، وأطرقت مغمض العينين كالمستغرق فى النعاس .. وبقيت هكذا مدة طويلة والفكر تدور فى رأسى وتصطخب حتى استيقظت على صوت ناعم قريب منى خيل إلىَّ أنه ينادينى .. فرفعت رأسى وتلفت فألفيت الفتاة التى لمحتها من قبل تحادث الساقى ، وكانت قد استدارت بالكرسى وواجهتنى ، وكانت عيناى سابحة فى سحب من الهم فلم أستطع أن أتبين ملامح وجهها لأول نظرة ، ثم انقشعت الغشاوة عن بصرى بالتدريج ، ورأيتها لأول مرة وهى تنظر إلىّ بقوة ، وقد لفت نظرها شرودى ووجومى ، وتبادلنا النظرات .. وبقيت أحدق فيها دون وعى ، هنيهة ، وشعرت بعد هذه النظرة بالحوائل والموائد التى كانت بيننا تنمحى فى لحظة ، شعرت بأنى أعرف هذه الفتاة من المهد ..
كثيرًا ما نرى أناسًا لأول مرة ، ونحس معهم بعد أول مقابلة وأول نظرة بأننا نعرفهم من زمن بعيد جدًا إلى أقصى ما يحصيه عقل إنسان ، وهذا ما حدث لى بالدقة أول ما رأيتها ..
وسددت طرفى إليها ، وأنا ذاهل شارد ، وقتًا لا أحصيه .. ثم أغرقت عينى فى قرار الكأس بعد أن تصورت نظراتى تثير اشمئزازها .. ولم يكن يعنينى فى ذلك الوقت شعورها نحوى ، لم أفكر هذا مطلقًا ، لم أفكر فى محادثتها أو معرفة أى شيء عنها .. كانت ككل فتاة تمر علىّ وتسترعى انتباهى وتبقى صورتها برهة فى ذهنى ، ثم تختفى وتضيع مع مثيلاتها .. وشربت جرعة من الكأس ونظرت إلى وجهها الأبيض المشرب بالحمرة الخفيفة الذاهبة .. وأحسست بجسمى يهتز.. وبقلبى يرتجف بشدة .. وتلاقت أعيننا مرة ثانية .. لا .. هاتان العينان السوداوان الساجيتان اللتان تشعان الإشراق والسحر والنور لا يمكن نسيانهما بسهولة ، ستبقى صورتهما هنا مطبوعة فى ذهنى إلى الأبد ، إنها تغايران العيون التى شاهدتها وألفتها ، قرأت فى أعماقها شيئا غريبًا غامضًا لم أقرأه فى عينين بشريتين من قبل .. وأجالت طرفها فى جوانب الحان ، وأخذت فى خلال ذلك أتفرس فى جسمها الفائض سحرًا على ثوبها السنجابى الصوفى المزرقش ، وشعرها الأسود المرسل وراء جيدها الطويل الأتلع ، وقبعتها الرمادية المائلة على جبينها المستوى المشرق ، وهدبها المسبل على عينيها ، وشعرت بعد ذلك بشعور لذيذ ، انتشت له جوارحى ، وتفتحت نفسى ، وانزاحت الغشاوة عن بصرى ، وذاب الهم فى صدرى .. نسيت الوجود بمشاغله وأحزانه ، وفكرت فيها وهى جالسة على قرب منى ، وعليها ذل الفقر وعناء الشقاء الشديد .. وأحنيت رأسى مدة ، ثم رفعت وجهى نحوها ، وتبادلنا النظرات فى هذه المرة أكثر من نصف دقيقة كاملة .. شعرت بأنى أتضعضع أمامها ، وأفنى بكليتى فيها ، فى نظرات عينيها ، فى السحر العجيب الفائض من وجهها ، وكانت نظراتى نظرات المأخوذ بسحر جديد لم يألفه ، لم تكن كأولئك الفتيات اللواتى تبدو عليهن مظاهر الخلاعة أول ما يأخذهن الطرف ، بل كانت رغم حياتها المضطربة محتشمة ساكنة ساجية الملامح جدًا ، تتحدث عيناها وشفتاها بما تنطوى عليه نفسها .. نفسها الغاصة بالكرب المثقلة بضروب الإيلام ، ومع هذا كانت تبسم من حين إلى حين بسمة خفيفة شاحبة لا تعبر عن سرور باطن .. ورفعت الكأس إلى شفتى وأفرغته كله فى جوفى ، وتنفست بصوت مسموع ، أرسلت زفرة حارة من صدرى ، كان جوفى يغلى بتأثير الكحول الحامية ، ونفضت رأسى وعصرت عينى ، وتحولت إليها ، فرأيت دلائل الاستغراب مرتسمة على ملامح وجهها ، ولعلها كانت تعجب لصمتى وسكونى ، وتدهش لوجومى وأنا فى وفرة الشباب والفتوة ..
وكانت رغم بياضها مصرية الدم والنظرات والبسمات ، تنفرد بوجه إنسانى تعبر ملامحه عن اسمى النفوس البشرية وأنقاها ، وهذا ما جذبنى إليها ، ورفعنى عن مستوى الناس وتقاليدهم وتفكيرهم .. وجعلنى أفكر فيها بقلبى .. وراعنى أنها نهضت عن كرسيها واستوت على قدميها وخطت نحو الباب ، وهى تسوى ثوبها وشعرها ، وأذهلنى انها لم تلتفت إلىّ ، ولم تعرنى بالها ، وتصورت أنها تجاهلت وجودى عامدة ..!! وبقيت بعدها شاخص البصر واجما ، لا أحس بشيء مما حولى ، ولا أستطيع أن أحدد انفعالى وأوضح مشاعرى ورغباتى .. ثم انسللت من الحان وأنا أشد الناس عذابا وألما ..
***
كثيرا ما ألتقى بفتيات أشغف بهن بعد أول نظرة ، وتبقى صورهن واضحة فى ذهنى أياما ، ثم تصرفنى عنهن الأيام ولا أعود أذكرهن بعد ذلك أبدًا .. على أننى لم أستطع فعل هذا مع فتاة الحان ، فلقد بقيت صورتها ماثلة أمام نظرى أينما رحت وغدوت وحللت .. بقيت كما شاهدتها أول مرة ، والابتسامة الخفيفة الشاحبة تخطف على شفتيها كما يخطف البرق فى ظلام وليل ، وكان الشوق يتسعر فى أعماق نفسى ويسوقنى إلى الحان لعلى أراها ، ولكننى كنت كلما لمحت بابه من بعيد ، أحس بقلبى ينتفض بين ضلوعى ويمزق صدرى .. وأقف شاردًا وجسمى يرتجف ، ورأسى يدور ، والنور يتراقص أمامى .. والعرق البارد يتصبب على جبينى .. كنت أشعر بحنين ممزوج بالرعب والذعر الشديدين ، فأنتفض وأفرق وأرهب الحان ومن فيه ، وأعود أدراجى سائراً على غير هدى كالشريد الطريد ، تتقاذفنى الحوارى والأزقة متخبطًا فى جوف الظلام ..
وتشجعت ومررت على الحان مرتين فى ليلتين متعاقبتين ولكنى لم أرها فيهما .. فكدت أجن .. ودفعتنى قدماى فى ليلة من الليالى إلى الشارع الذى فيه الحان ثم ألفيت نفسى .. دون وعى .. جالسًا إلى المائدة التى جلست عندها فى المرة الماضية .. واسترحت على الكرسى ، ووليت وجهى شطر الباب ، بعد أن جمعت حواسى كلها فى نظراتى المعلقة بمصراعيه .. وكلما دخل داخل قفز قلبى ، وارتعش جسمى ، وانتفضت جوارحى وكانت الساعة تقرب من التاسعة ، والليلة باردة ظلماء ، شديدة الريح ، ومع هذا فقد دفعت الكرسى خطوة إلى الأمام ليخلص بصرى إلى الطريق .. كنت أود أن أكون أول من يراها وهى قادمة من بعيد ، وأول من يلمح ثوبها ، وكنت على يقين راسخ فى أعماقى بأنها ستأتى ، ونفذ بصرى من فرجة الباب المثنى وامتد إلى الشارع ، واستقر على بقعة بعيدة هناك .. فى ميدان سليمان باشا ، تخيلتها قادمة منه ، وبقيت على ذلك الحال أكثر من ساعة وبصرى مستقر على الميدان لا يتحول عنه ولا يطرف ، وروحى تفور داخل نفسى ، وقلبى يزداد وجيبه كلما رأيت ثوبًا سنجابياً يلوح عن بعد ويمضى .. وانحصر نظرى فى المرأة فقط ، وأغلقت كل الصور الأخرى التى تمر فى الطريق .. وتراقص الضوء وماج الناس واضطربوا ، واختلطوا ثم غابوا عن نظرى ، وأصبحت لا أرى إلا ثوبًا سنجابياً يلوح ويمضى .. يبدو عن بعد ثم يختفى ، يا للعجب اختلط على ذهنى المحموم ، وتغشانى الهم ، وأصبحت لا أرى إلا ثوباً سنجابيا يبدو من بعيد فإذا قرب منى ضاع فى زوايا الطريق وولى ..
تحولت عن الطريق وأغمضت عينى .. ضاع كل أمل فى مجيئها ، وقرب الليل من منتصفه ، ومرت بى ساعات ثلاث قضيتها فى جحيم وعذاب وقلق .. لم أعرف فى حياتى مرارة الانتظار كما عرفتها فى تلك الليلة .. وخيل إلىّ أنى واعدتها وأنها أخلفت وعدى ، ولهذا كان شعورى بالتعاسة والخيبة لا يصور .. واختفى الطريق وخيم الظلام والسحاب على الحان ، وسبحت بكليتى فى سواد كثيف ولم أعد أرى شيئًا .. ثم رجعت لرشدى ونقدت الساقى .. وتحاملت على نفسى ، وتقدمت ، وأنا أميد من الشجو تجاه الباب . ودفعت مصراعه الأيسر فقاوم ثم استلان ، وأزحت الستر وتخطيت العتبة ، فإذا بى أصطدم بها !! يالله !! وقفت عدة ثوان أرميها بعينى مجنون ، وأحسست بموجة من الغضب تجتاحنى فتطاير من عينى شرر يصهر الفولاذ ، وماتت قبضتى فى حديد الباب ، وسمرت فى مكانها مروعة ، وقد طير منظرى المرعب صوابها ، وخلصت أنفاسى وانطفأ وهج عينى وهبطت حرارتى .. وبرقت عيوننا معًا ببريق غريب .. ثم اختلج طرفها وأسبلت جفنيها ، وأحسست بأنفاسها تروح على وجهى .. ثم رفعت أهدابها ونظرت إلىّ نظرة طويلة جمعت فيها كل ما يمكن أن تقوله امرأة لرجل ، ولاقتها نظراتى فى ثبات وصمت ، وكان فى هذه النظرة الطويلة الكفاية .. فأفسحت لها الطريق ومضيت فى الشارع ، وأنا أصفر وأغنى ..
***
ورأيتها ذات ليلة جالسة فى ركن من الحان مع فتاة فى سنها ، فاتخذت لنفسى مكانًا يقرب منها .. ولما رأتنى ابتسمت فى سرور وغبطة ، وشاع فى كيانها المرح فرن ضحكها الموسيقى فى أرجاء الحان ، وكان له وقعه فى قلبى .. وبارحت الحان وهى ترمينى بنظراتها ولم أشعر بعد فراقها بألم ولا حزن ، بل كنت على أحسن حال ، وأتم سرور ..
وأصبح الحان بعد هذه الليلة من ضروريات حياتى ، كنت أدلف إليه فى الساعة الثامنة من كل مساء ، وأبقى فيه حتى تنقضى ساعتان من الصباح ، وكانت الفتاة تجئ أحيانًا فى التاسعة ، وأحيانًا فى العاشرة ، وتبقى إلى نصف الليل .. ولم أحاول طوال هذه الساعات محادثتها ، فقد كان الاضطراب والخجل يعقدان لسانى ..!!
وجاءت مرة قبل ميعادها بساعة ، والحان خال من رواده تقريبًا ، وحيتنى بابتسامة فاتنة ، وخلعت قبعتها وجلست على كرسى يلاصق مائدتى .. وحملنى قرب جسمها من جسمى على أن أبعد عينى من سواد عينيها ، وأن أخفى اضطرابى بأى سبيل ، ففتحت كتابًا معى ، ومضيت أقلب صفحاته .. واستغرقت فى المطالعة حتى استيقظت على صوت جاف خشن دوى فى جنبات الحان ، فرفعت رأسى ، فرأيت بائع أوراق " النصيب " واقفًا أمامها يدفع لها ورقة ويحملها فى خشونة على شرائها .. وسمعت صوتها الناعم الفضى النبرات ، وهى تصرف الرجل بالحسنى ، ورأيت الحياء .. الحياء الشديد الذى لا يظهر على وجوه الكثيرات من بنات الأسر يغمر وجهها ، ويلون وجنتيها بلون الجمر ، والبائع الجلف لا يزداد مع الحياء إلا جرأة .. فأشفقت عليها ، وناديت الرجل ، فتحول إلىّ وتناولت منه ورقة ، وأخذت أحادثه لتعود الفتاة فى خلال ذلك إلى هدوئها .. ثم مددت يدى نحوها فى اضطراب ..!! ورجوتها أن تجذب بيدها الجميلة ورقة .. فرفعت وجهها فى استغراب وترددت وابتسمت .. وصوبت عينيها فى أعماق عينى ثم قالت بصوت خافت :
     ـ ولكنى منكودة الحظ .. أو كنت على الأقل كذلك ..
وانقطع صوتها .. وشعرت بكلماتها الأولى تسحق قلبى .. ورأيت وجهها يرتفع عن الورق ويستقر على شفتى .. كانت تود أن تعرف أول كلماتى .. كنت أود أن أقول لها شيئًا لم أقله من قبل ، ولكنى أحسست بلسانى يقف فى حلقى ، وتداركت نفسى وقلت فى صوت خافت متهدج :
ـ أرجوك أن تتناولى ورقة ..
فمدت يدها الرخصة .. وأمسكت بالورق وأخذت تقلب فيه ، وتتفرس وتفكر وتحلم .. وأناملها الدقيقة فى أثناء ذلك تنتفض .. ثم قدمت لى ورقة ، وهى تضحك ، وغمغمت بشيء لم أسمعه ..
ونقدت الرجل لينصرف ، أحسست بأن وجوده يضايقنى ويفسد علىّ سعادتى ..
وبقينا صامتين مدة فى ارتباك وخجل ..!!
ثم سألتنى فى صوت خافت ، وقد أشرقت صفحة وجهها :
ـ سكير ..؟
ـ معاذ الله ..
ـ لماذا تجئ إلى هنا كل ليلة إذن ..؟
ـ كل ليلة ..! ما كنت هنا أمس ولا قبل الأمس ..
ـ ولكنى أراك كل يوم ..!
ومالت بعنفها إلى اليسار قليلا وأظهرت كل أسرار قلبها فى صفاء عينيها .. ثم فتحت شفتيها الرقيقتين الحالمتين لتفسح طريق أنفاسها ..
وسألتها وبصرى يضطرب مع خلجات شفتيها :
ـ أين ..؟ أين شاهدتينى .. ؟
ـ رأيتك سائرًا فى الطريق .. أو دائراً فى قلق وحيرة حول الحان ، كأنك تبحث عن شيء عزيز فقدته .. لماذا تفعل هذا ..؟
ـ كنت أبحث عن وجه إنسانى ..
ـ ووجدته ..؟
ـ أجل .. أخيراً ..
وظهر فى عينيها الدهش مختلطًا بسرور النفس وابتهاج المشاعر ..
وسألت بصوت لا تسمعه أذناها :
ـ أين ..؟
ـ هنا ..
ـ ها .. ولماذا تبحث عن الوجوه الإنسانية .. أأنت رسام ..؟
ـ أجل .. وكيف عرفت ذلك ..؟
ـ قرأت فى عينيك آيات الفن ..  
ـ شكَراً ..
ـ أهذا ثناء ..؟
ـ بالطبع ..
ـ آسفة ما كنت أقصد هذا .. ما أجهلنى ..!
ـ على أى حال شكراً ..
ـ ولماذا كان هذا الوجه السعيد إنسانيًا .. لماذا يتميز عن وجوه الناس ..!
ـ لأنى كلما رأيته ، أنسى ضعف الناس وضعف نفسى ..
وأدرك تلك القوة الخفية التى تحركنا وأضع الحياة بخيرها وشرها فى ميزان واحد ..
ـ وإذا غاب عنك هذا الوجه ..
ـ أرتكب كل حماقات الناس أجمعين .. وأكون كأشد المتزمتين منهم سخفًا وحمقا ..
ـ أتحبه إذن .. آه .. آسفة .. أتحب أن تراه دائما ..؟
ـ فى كل لحظة وحين ..
ـ فى كل لحظة وحين ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أقرأ فى عينيه شيئًا غريبًا غامضًا يرتجف له قلبى ..
ـ أتجالس النساء كثيرًا ..؟
ـ لماذا ..؟
ـ لأنك ثرثار ..!
ـ آسف .. لقد أزعجتك بفلسفتى الجوفاء ..
ـ هذا صحيح .. والآن أصمت واشرب نخب صحتك وصحة الوجه الإنسانى ..!
وسألتنى بعد لحظات :
ـ لماذا كنت تحدق فىّ بشدة أول ما رأيتنى ..؟
ـ كنت أحاول أن أذكر أين قابلت هذا الوجه وهاتين العينين ..
ـ وتذكرت ..!
ـ نعم أخيرًا ..
ـ قابلتنى أنا ..!! وفى أى مكان ..؟
ـ من زمن بعيد جدًا .. قبل أن توجدى ..
ـ أوه .. صه ..
ووضعت يدها على فمى ..
وانطلقنا نتحدث ، ونتبادل النظرات والبسمات فى سكون وتأمل ، ولم أسألها بعد ساعة من الحديث الممتع عن اسمها كما أنها لم تسألنى عن اسمى .. أقبلت بوجهها على وجهى .. ويدها مستريحة على طرف المائدة فأمسكت بيدها لأول مرة ، وشعرت بلذة عنيفة قوية تتدفق مع دمى ، وضغطت على يدها فى قوة وحرارة .. كنت أود أن أعبر لها من أقصر طريق عما تكنه جوانحى ، ويحمله قلبى ، وكان وجهها الساكن الهادئ الجميل يكتسى بحمرة الشفق ، ويذوب لونه ويرف على خدها فيزداد نضارة ويزهو ، وكان شعرها بعد أن خلعت قبعتها ، يكون هالة فاتنة لجبينها ووجنتيها ، وينسدل مرارا على عينيها ليحجب عنى بريقهما ونورهما ، فكانت تدفعه إلى الوراء وهى تهز رأسها ، وتبتسم أعذب ابتسام وأفتنه ..
مرت علىّ وأنا جالس معها لحظات لن أنساها ما عشت ، اختلستها من غفوة الزمن وأراها لا تعود .. مرت علىَّ فى سرعة البرق .. وأنا مأخوذ بسحر جمالها .. صور حياتى كلها من اللحظة التى وجدت فيها حتى التقيت بها .. ما أغرب المصادفات ، إنها التى تخلق الأشخاص حقا وتغير سيرة حياة الإنسان كذلك ، لم أكن أعرف وأنا أدخل الحان فى غلس الليل وسكونه أنى سألتقى بأعز إنسان فى حياتى .. بالمرأة الوحيدة التى أحببتها .. المرأة الوحيدة التى شعرت معها بأنى إنسان يعتز بإنسانيته ووجوده ، ويعرف قيمة حياته ، ويقدر مصيرها ، لقد كانت حياتى قبل أن ألتقى بها تسير على منوال أليم معذب .. كنت كمن يعيش فى صحراء جرداء ولا رفيق ولا أنيس ، كنت كمن يعيش فى مغارة سحيقة فى أعمق طبقات الأرض حيث الظلام والفناء والعدم ، أرزح تحت ثقل الوحدة المميتة ، وأفنى حيويتى ، وأشرب أحزانى ، وأعصر قلبى وفكرى ، وأشعر بأنى أسير نحو الفناء ببطء .. أسوق نفسى إلى حتفى .. كانت أعصابى بعد مطالعاتى المستمرة ، وعملى كرسام قد وهنت وضعفت .. وتداعى معها جسمى ونشط تفكيرى ، وسبح خيالى فى لجج من الهم ، وتراكمت الخواطر على ذهنى المحموم .. كنت واقعًا تحت تأثير خواطر عاصفة ، أتعذب لعذاب الناس ، واتألم لآلامهم ، وأشقى لشقائهم وبؤسهم ، أرى الفقراء إخواننا فى الإنسانية يشقون ويتعذبون ويتساقطون حولنا تساقط الفراش حول اللهب ، ونحن لا نفعل شيئا لأجلهم ، لا نفكر فى إسعادهم وانتشالهم من بؤسهم وفتح أبواب الحياة لهم .. كان نظرى إلى المرضى والضعفاء والمساكين ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، ولفظتهم الإنسانية ، كله عطف وإشفاق على مصيرهم ومآلهم ..
قضينا فى الحان أكثر من ساعة ونصف ساعة فى حديث ومرح وغبطة .. قربت وجهى من وجهها وعينى من عينها وقرأت فى أعماقهما لواعج صدرها ، أحلامها وأمانيها .. وأحسست ، وأنا قابض على الكأس ، براحتها تلامس يدى ، فضغطت عليها ، وأمسكنا بالكأس معا ، وسرت نشوة لذيذة قوية فى عروقى ، ورفعت يدها عن الكأس ، وقبضت عليها بشدة ، ورأيت السرور يتألق فى جبينها ويشرق على وجهها ، كانت فى حاجة شديدة إلى من يعطف عليها ويرحم مصيرها ، ويعرف آلامها ويخفف عنها أحزانها .. ما أحلى السعادة التى يشعر بها أولئك الذين يحسون ويعرفون أن هناك مخلوقات بشرية تعطف عليهم وتحبهم .. تحبهم يالله ..!! ما أسعد الساعة التى تمر على المرء وهو على يقين من أن هناك إنسانا مثله يجاوبه عطفًا بعطف ، وقلبًا بقلب ، وشعورًا بشعور .. شعرت فى تلك اللحظة أنها انقلبت فتاة أخرى ، وأن روح الشر الخبيثة التى تجرى فى دم المرأة قد رسبت وتخدرت فى أعماقها .. وبدت أمامى هادئة وادعة صافية النفس حالمة ، تتعطش للمستقبل المجهول ، وتتمنى أعذب الأمانى ، وتسبح فى جو من التأملات اللذيذة .. كم مرة امتزجت أنفاسنا ، ونحن نتقارب بالشفاه ونتلامس ، وكم مرة شعرت بعينيها الجميلتين تنفذان إلى أغوار نفسى . وكم مرة تضاغطت أيدينا وتماسكت وتشابكت ونحن نهتز ونرجف من فرط الشعور بالسعادة التى لا تحد ..
ولما هتفت بالساقى لنبرح المكان ونرتاض قليلا خارج المدينة سمعتها تقول بصوت خافت فيه كل ما تملك من عذوبة ورقة :
ـ اسمح لى أن أدفع الكأس التى شربتها وحدى ..
فقطعت عليها حديثها بنظراتى المؤنبة القوية ، وغضت طرفها وفتحت حقيبتها وضربت يدها فيها ، وراعنى أن يدها أخذت ، بعد ثوان قليلة ، ترتعش .. وترتعش رعشات عنيفة مفزعة ، وانقلب وجهها الضاحك الباسم ، فى لحظة ، إلى وجه أصفر أغبر السحنة .. فى ثانية واحدة تغير كل شيء فيها ، كانت شفتاها المتقلصتان تختلجان بشدة وتلوذان بأسنانها .. وقبضة يدها لا تزال تنتفض فى ثنايا الحقيبة ..
ونقدت الساقى وانصرف ، وأمسكت بيدها ، ورأسها لا يزال منكسًا ، فأحسست بجسمها يرتعش كله ، ووضعت يدى تحت ذقنها ورفعت وجهها إلىّ .. فيا أروع ما رأيت ..! رأيت عينيها غارقتين إلى أقصاهما بالدمع .. رأيت أجمل عينين فى الدنيا ترسلان أصفى دمع ..
وقالت بصوت ناعم خافت متقطع :
ـ لم أكن أعرف .. أ .. أ ..
ووضعت يدى على فمها .. كنت أعرف ما ستقوله ، وأشعر وأقدر مركزها ، لقد انجرح كبرياؤها أبلغ جرح .. ولما أمسكت بكلتا يديها وقبضت عليهما بشدة كان جسمها ينتفض كله ..
فكرت فى كبريائها المجروح ، وأدركت لأول مرة فى حياتى قيمة المادة وحقارتها أيضاً .. فكرت فى أن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التى يحبسها الأثرياء عن الضوء لا تساوى دمعة صافية من دموعها .. فكرت فى أن هذه الدنيا بمن فيها ومن عليها لا تستحق دمعة رقراقة من عبراتها ، كنت أود لو أمتلك الدنيا بأسرها لأفديها بأحزانها .. أحسست بجو الحان يأخذ بعقلى .. لقد جرح إحساسها .. يالله ..! لقد رفعت إلى أسمى موضع فى نفسى .. ونهضت وأنهضتها .. وتأبطت ذراعها وخرجنا من الحان نضرب فى الطرقات فى صميم الليل على غير قصد ..
وكانت الليلة من ليالى الشتاء القارة التى لم تألفها القاهرة منذ سنوات ، كانت قاسية البرودة شديدة الريح ، ومع هذا فما أحسسنا بها ولا أعرنا بالنا إليها .. سرنا متلاصقين نسمع صوت نعالنا فى الليل الساكن .. ودقات قلبينا فى أعماق السكون المخيم ، ونرى أنفاسنا المبهورة المتلاحقة وهى تسبق وجهينا ، وشعرت وهى بجانبى بإحساس عجيب غريب ، أحسست بقوة عظيمة تسرى فى جسمى .. انتفخت لها أوداجى وشمخ أنفى ، خلت نفسى بعد أن تدفق الدم فى شرايينى أقوى من الناس جميعًا فرحت أضرب الأرض بقوة ، وأطوح بذراعى فى الهواء بعنف ومرح وفتوة .. وددت لو اعترضنى معترض لأبرهن لها عن قوتى التى لا تحد ، وددت لو اعترضنى إنسان لأضربه الضربة البكر التى ترديه ، وددت لو حملتها على ذراعى وحلقت بها فى السماوات ، فوق المنازل وأعالى الأبنية ، وفوق الأسوجة والمعترضات والسدود ، وفى جو الحدائق وفوق سماء الأنهار ، وأنا أضحك وأقهقه وأغنى وأفيض على الدنيا بأسرها ببعض سعادتى .. كانت سعادتى فى ذلك الحين تكفى لإسعاد المحزونين فى الدنيا بأسرها جمعاء وفناء الآلام والأحزان من البشر .. كانت تكفى لوضع الناس فى صعيد واحد وجعلهم سعداء هانئين ..
فكرت وهى مستريحة بجسمها على جسمى .. وادعة حالمة .. فى هؤلاء الذين يثيرون دفائن هذه المخلوقات الضعيفة ، ويدعونها تنفث السم ، فكرت فى هؤلاء المخنثين الذين يبكون ويركعون أمام المرأة ليبعثوا فى أعماقها الاحتقار والسخط على جنس الرجال جميعًا ..
فكرت فى هؤلاء المرضى الذين ينوحون ويبكون ويموتون أمامها من الخور حاسبين أنهم يستدرون عطفها ، ويستقرون فى قلبها .. وما يبعثون فى نفسها إلا كل ضروب الاشمئزاز ، فكرت فى هؤلاء الذين لا يفهمون المرأة على بساطتها وسطحيتها ويروحون ينسجون حولها الأسرار ، فكرت فى هؤلاء الشعراء المساكين الذين لذعتهم بمثل الجمر وكوتهم بنارها ، وهى لا تملك إلا عذابهم وإيلامهم ، لأنهم لا يستحقون إلا التعذيب والإيلام .. فكرت فى هؤلاء التعساء الذين يشوهون جمال الحب بدموعهم وزفراتهم وتنهداتهم التى لا آخر لها ..
وكنا قد بلغنا جسر إسماعيل فأوغلنا فيه ، ثم اعتمدنا على حواجزه ، وأخذنا نحدق فى الماء الجارى تحتنا ، والطبيعة الناضرة حولنا ، وبعثها منظر السماء والماء .. وجمال الطبيعة السابحة فى غيابات الكرى ، والنخيل السامق على الشط ، والأضواء الراقصة على صفحة الماء ، على أن تتحدث عن آمالها وأحلامها وأمانيها التى ذوت وصوحت وراحت أباديد ..
ولما بدأت تحدثنى عن صدر حياتها وضعت يدى على فمها لتصمت ، لم أكن أحب أن أعرف شيئاً مطلقاً يتصل بماضيها ، كنت لا أود أن أفسد علىّ سعادتى الراهنة .. كنت لا أحب أن أعرف عنها أكثر من أنها مخلوقة وادعة التقت بى عرضاً فى ليلة من الليالى ، واستسلمت بكليتها لى ، بجسمها ونفسها .. فما شأنى وماضيها .. طغت علىّ موجة إنسانية رفعتنى عن الشهوات الشخصية والأنانية ، وجعلتنى إنساناً يعيش لساعته .. يعيش لوقته ..
وأخذت أجول بطرفى فيما حولى ، ثم أحدق فى جسمها الممتلئ الرشيق الفاتن وأسبح فى عينيها النجلاوين الضاحكتين ، وأحس بجاذبية غريبة تجرفنى نحوها ، وتحملنى على أن أنسى الزمان والمكان وأطوقها بذراعى ، وأضمها إلى صدرى ، ووقفت ساهمًا ، مبهور الأنفاس ، شديد ضربات القلب ، وذراعاى تودان لو تضمانها إلى قلبى ، وتضغطانها على جسمى ، وشفتاى تتعطشان إلى شفتيها ، كنت أحب أن أعصر جسمها وأفنى فيه حيوتى وأدفن أحزانى ..
وقالت بصوت مرتعش وقد أدركت بغريزتها ما يجول بخاطرى :
ـ كمال .. اشتد البرد .. هيا ..
فنظرت إليها فى غرابة وقلت :
ـ كيف عرفت إسمى ..!
فقالت باسمة :
ـ قرأته هنا ..
وأشارت إلى جبينى ..
وضغطت على ذراعى وقربت منى .. مشينا على رصيف الجسر حتى تخطيناه وانحدرنا إلى الشط ، وسرنا على العشب الأخضر المطلول ، وكان السكون عميقا شاملا ، والطبيعة هاجعة ناعسة ، وطرف الجيزة الفيحاء يبدو بنخيله وحدائقه وبساتينه ، غائصا فى لجج الظلام ، ولم تكن الليلة مقمرة فاسترحنا إلى الظلام .. وإلى ظل النخيل الممتد على أديم الماء .. ولم تكن سعادتنا مستمدة من الطبيعة الجميلة الضاحكة بل كانت خارجة من أعماق نفسينا .. وجلسنا على العشب الندى ، ورحت أذكر قريتى الحبيبة على النيل وطفولتى وملاعب صباى ، أيام كنت أقضى النهار طوله اصطاد السمك ، وأسبح فى الماء .. رجعت أذكر الليالى الصيفية المقمرة التى كنت أتنزه فيها فى النيل مع لداتى من أبناء أعمامى .. نخرج بزورق صغير كل غروب ساعة الطفل ، ونرسله مع التيار ، ثم نشرع فى التجديف الخفيف اللين ، ونغنى على وقع المجاديف الغناء الريفى الحزين ، حتى يجرفنا التيار ، ويرمينا إلى جزيرة القرية الصغيرة ولما تسمع كلاب الجزيرة الهائجة أصوات المجاديف تتوثب نحونا نابحة ، فيخف إلينا الفلاحون ، ويزجرون الكلاب بالطوب ، ويمسكون الضوارى منها من أعناقها .. ثم يتلقونا بالبشر والترحاب والتهليل .. ونجلس حولهم خارج العرائش نأكل البطيخ ونسمع أحاديثهم وسيرهم وأقاصيصهم الطلية عن عصاباتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب .. يفيضون معنا بفنون الأحاديث حتى يقرأوا على وجوهنا النوم ، فينهض منهم ثلاثة أو أربعة أشداء مفتولون ، ويأخذون ناصية الزورق بحبل طويل يديرون طرفه الآخر على أكتافهم ، ويرسلونه وراء ظهورهم .. ثم يسحبون الزورق .. ويمشون به قرب الشط فى صمت وعناء وسكون ، ونحن خلفهم مستلقون على سطحه ، مستسلمون لأعذب الأحلام ، لا نفكر فى آلامهم ولا نشعر بتعبهم ، ولا نقدر عواطفهم الجميلة النبيلة ، ولا حتى نشكرهم ، وما أحسبهم كانوا فى حاجة إلى شكرنا .. لازلت أراهم وأتصورهم الساعة وهم يشمرون عن سواعدهم ، ويطوقون خصورهم بأطراف ثيابهم ، وينحنون على الماء .. والحبل يغل عنقهم ويدمى ظهورهم ، وأرجلهم تتخبط فى الماء وتغوص فى الوحل ، فإذا أدركهم التعب ، غنوا غناء حزينا يختلط مع خرير الماء المتدفق من السد القريب ، ويستقر فى أعماق قلبى .. هذا المنظر الذليل المستكين سيبقى هنا راسخاً فى أعماق ذهنى إلى الأبد .. هنا عند مركز الباصرة ستبقى هذه الصور حية كما شاهدتها من سنين ..
***
وأخذت علىّ سيل خواطرى وذكرياتى بقولها :
ـ ما الذى تفكر فيه ..؟
فتحولت بوجهى إليها ، وكانت ترقبنى فى تأمل ، وتعجب لشرودى ، وتجهل ما يدور فى ذهنى ، وأمسكت بذراعيها وجذبتها نحوى ووقفت وأنفاسى تمازج أنفاسها ، وصدرى يضطرب مع صدرها ، وعينى سابحة فى نور عينيها .. يالله .. ستمر السنون وتنقضى الأعوام ، وتطوى الحادثات ، وتنمحى الصور وهاتان العينان مستقرتان هنا .. هنا تحت عينى .. تنظران من وراء الحجب إلىّ ، تلحظانى من وراء الغيب المجهول .. إنكما هنا بجوارى تسهران علىّ وأكتب على نوركما هذه الصفحات ، وفى اللحظة التى سينطفئ فيها هذا البريق ، سينطفئ سراج حياتى ..
***
ودعنا جسر إسماعيل ، وما يحيط به من مناظر ومباهج ومتع ، وكنا ننظر إلى الماء الجارى تحتنا ، والطبيعة الناضرة حولنا ، والسماء الباسمة فوقنا ، ونتمنى لو تواتينا الشجاعة لنفنى ، لنفنى معا بعد أن أحسسنا والشعور مشترك ببلوغ الغاية والوصول إلى نهاية .. أحسسنا بأننا وصلنا بمشاعرنا وعواطفنا إلى نهاية ما نحب ونرجو .. كنا نود لو ننحدر إلى جوف اللج ، ونروح مع تياره ، ونغوص فى أعمق أعماق اثباجه ، ويطوينا البلى معًا ، ونحن متلاصقان جسمى على جسمها .. وصدرى على صدرها ، وشفتى على شفتيها ، وأنفاسى تمازج أنفاسها ، ورضابى سابح فى رضابها ، وروحى تخرج مع روحها فى وقت واحد ولحظة واحدة .. لم أكن فى تلك اللحظة آسف على شيء فى الوجود .. الإنسان يعيش فى حياته مرة .. مرة واحدة يشعر فيها بقيمة نفسه ، ويحس بوجوده كإنسان .. ثم بعد ذلك يفنى .. يعيش ميتا حيا ..
وسرنا نقطع شوارع المدينة على مهل ، مسترسلين فى ألذ الأحلام ، غافلين عما حولنا ، ناسين الريح المصفر والبرد الشديد ، حتى قرع سمعنا أنين حاد يشبه العويل ، فوقفنا جازعين ، نسترق السمع ونرهف الحس ، ونمد البصر فى قلب الليل ، وإذا بنا نلمح على ضوء بعض المصابيح ، شبحا أسود ، قابعا تحت جدر بعض الأبنية العالية ، فمشينا نحوه بخطى جفلى ، فلما قربنا منه رأينا امرأة شريدة من طريدات الليل ، على بدنها ثوب أسود مهلهل ضمته على جسمها ، وغطت بأطرافه رأسها ، وتجمعت وتكمشت وألصقت ركبتيها بذقنها ، ودفنت وجهها فى الجدار .. وهى ترتعش وتنتفض من البرد ، وتئن وتنوح ، وتنشج نشيجاً يفطر الأفئدة ويهز المشاعر ..
والتصقت بى الفتاة ، ورفعت عينيها المغرورقتين بالدمع وصمتت ، وبقيت تنظر إلى المرأة بوجه ملتاع وكأنها تود أن تقول :
ـ ألم يمر عليها إنسان ..؟!
وأخذ جسمها بعد ذلك ، يرتجف بشدة ودموعها تتساقط فى حرارة ، فشددت عليها بذراعى وأبعدتها عن هذا المنظر المؤثر بعد أن أدركت ما يجول بخاطرها ، وأخذت أحدثها حتى انصرفت عما تفكر فيه وهدأت وسكنت ، وكنا قد بلغنا المنزل ، فدفعت بابه الحديدى ، واحتوانا الفناء المظلم .. ووقفت عند عتبة السلم وأشرت عليها بأن أحملها على ذراعى لأصعد بها السلم فرفضت .. ثم وافقت .. ولم أدر من أين أتتنى تلك القوة العظيمة التى أعانتنى على حملها دون عناء وجهد ، صعدت بها الدرجات على مهل ، وكنت أقف بين الفنية والفنية لأحدق فى وجهها ، وأملأ عينى من حسنها ، وأرقب شفتيها الورديتين وهما تنهلان من رحيقهما ، واشتهى لو غمرتهما بقبلاتى .. ثم أعود أستأنف ارتقاء الدرج فى تراخ وكسل .. كنت أود أن أطيل إلى أقصى أمد زمن سعادتى ، لم أشعر فى حياتى كلها .. فى سنى أيامى الخوالى ، بمثل هذا الشعور الذى شعرت به فى تلك الليلة ، وهى تطوق عنقى ، وتلصق جسمها بجسمى ، وتضع قلبها على قلبى ، وتسبح بعينيها فى عينى ، لقد أحسست لأول مرة فى حياتى بلذة الحس التى لا تحد ، بالنشوة اللذيذة التى تغمر الجوارح كلها وتفيض على نفس الإنسان وحسه ..
ولما بلغت باب مسكنى أنزلتها فى رفق على الأرض وفتحت الباب ودخلت البهو ، وأشعلت النور ، ووقفت أمامها ألهث .. فوضعت يدها على عاتقى ورمقتنى ، وهى ساكنة الملامح ، بعينين تفيضان حناناً وفتنة .. ثم مشت تستعرض الصور الزيتية المتناثرة على الجدران .. وأدركت بعد السكون الذى طالعها من جوانب البيت أننى أعيش وحدى .. ونقلتُ البصر فيما حولى ، ورجعت أذكر هذا المنزل الذى قضيت فيه جانبًا عظيمًا من حياتى وحيدًا مستفردًا لا يؤنسنى فيه إنسان ، مضيت فيه شطرًا كبيرًا من نهارى وليلى ، وحيدًا منعزلاً ، فى حى هادئ يقرب من حى الموتى ، وشعرت لأول مرة بأنى فى حاجة شديدة إليها ، إلى ابتسامتها ، إلى النور المشرق من عينيها ..
وأمسكت بيمناها وجذبتها إلىّ ، فراعنى أن ظهر راحتها مخضل بالدم .. فحدقت فيها مبهوتًا ، وهى تبتسم فى خفر أحلى ابتسام ، وقربت منى ودار ذراعاها حول عنقى فرفعت يدها الدامية عن عاتقى وقربتها من شفتى ، وأدمت النظر فى سواد عينها وفهمت .. لقد غاصت أظافرى ، وأنا لا أعى فى لحمها .. ووضعت شفتى على يدها وأخذت فى نهم أشرب الدم .. وأحس بلذة وحشية غريبة هزت كيانى ، وكرت بى إلى طبيعتى الأولى .. إلى إنسان الغاب .. وتراخى جسمها واستلانت عضلاتها ، وأطبقت جفنيها ، وحبست أنفاسها ، فحملتها على ذراعى ودخلت بها مخدعى وأضجعتها على السرير ، دون أن أشعل النور ، وطوقت خصرها ، وضغطت على بدنها .. وأنا أهتز وأرجف ، ودفنت رأسى فى حجرها وصدرى يغوص فى جسمها ، وأنا أرتعد وأنتفض وأخاف .. أخاف المستقبل المجهول بظلامه وسحبه ، أخاف أن تفلت من يدى ، وتروح مع الرائحين ، فتذهب وراءها سعادتى وحياتى ..
=====================
نشرت القصة فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941

نشرت القصة فى عام 1941 فى مجموعة قصص " فندق الدانوب " لمحمود البدوى

صوت الدّم

     كانت الطريق بين مزرعة صالح وقرية « ك » طويلة وموحشة ، وكان بعض الفلاحين العائدين من المزرعة بعد الغروب يتحاشونها ويسيرون فى طرق كثيرة بين المزارع .
     على أن الذين كانوا يتروحون بدوابهم ، وهم غالبية الفلاحين ، كانوا يضطرون مجبرين إلىّ اتخاذ الطريق البعيدة لأن أرجل الدواب تفسد الزرع والنبت ، كانوا يمشون فى سكة معبدة بين الحقول ، حتى يبلغوا ترعة الجرف ، فينحدرون إلى قاعها ، ويصعدون منها مستوين على جسر القرية ، ويدورون مع الجسر العتيق البالى حيثما دار ، مجتازين بساتين النخيل والأعناب ، وأشجار السنط حتى يدخلوا القرية مع العشى ، وهم لاهثون مكدودون .. من ثقل البرسيم على ظهورهم ، ومن فرط ما يلاقونه من إعنات البهائم النافرة التى تظل طول الطريق تضرب بحوافرها الأرض وتقطع الجسر فى خطوط حلزونية وهى تخور وتصهل وتهدر فى مرح ونشاط ، لأنها شبعت من خير الأرض ، وشربت من ماء النيل ، واستدفأت بحرارة الشمس ، وقضت النهار كله فى جو بهيج طلق .
     وكان الفلاحون الذين يسوقون الدواب من الحقول من فتيان القرية الأشداء الذين ألفوا سير الليل فى الليالى الظلماء ، ومع هذا فقد كان عمدة القرية يهون عليهم وحشة الطريق بإخراج خفيرين من أحسن الخفراء يتطلعان ويعسان على الجسر ، وبعض الأحيان يواصلان السير حتى المزرعة .
     وكان من بين الفلاحين الذين يتخذون طريق المزرعة الطويلة الكثير من الغلمان . وكان هؤلاء أسبق أهل المزرعة إلى الرواح . كانوا يبدأون فى حش البرسيم عندما تميل الشمس نحو الأفق ، وتقرب من قرن الجبل ، وترسل أشعتها الصفراء على الحقول ، ويكومونه خارج الحقل ، ثم يضمونه فى حزم صغيرة يربطونها بسيقان الزرع اللين ، ويحلون الدواب من أوتادها ؛ ويضعون على ظهورها الخيش الثقيل ليقيها برد الشتاء ، ويوثقون أفواه البهائم النافرة بكمامات من الليف المحكم الفتل ، ويحملون ظهور الحمير والجمال بالبرسيم، ويرسلونها فى الطريق وهم وراءها يحثونها بالعصى ، ويغنون على وقع حوافرها الغناء الريفى الحزين .. كانت أصواتهم الحلوة ترن فى سكون الغسق ، وتدوى فى جوف الليل ، فيهتز لها الزرع ، ويغنى الطير ، وتنحنى لها أعناق الأبل وتسكن البهائم الهائجة ، ويحمل الهواء الرخى صداها إلى القرية، فترقص لها قلوب الأمهات طربا ، ويرحن يهيئن العشاء من العصيد والفت لأفلاذ أكبادهن القافلين من المزرعة .
     وكان الفتيان وهم يدخلون القرية مع العشى لا يحسون ، مع طول الطريق، بتعب ولا نصب ، ولا يشكون من سوء الحال ، ولا يعرفون المصير . كانوا يقطعون الطريق ضاحكين صاخبين ، كانوا دائما يضحكون للزمن ويبتسمون للحياة ؛ ويقضون النهار فى الحقل يلعبون « الطرطقة » والكرة الليف ، ويأكلون الخبز الأسود بالحلبة والجبن ويشربون من لبن الضأن ، ويشعلون فى بكائر الصباح النيران فى أطراف الحقل ، ويجلسون حولها يتحدثون ويتندرون ويفيضون بأعذب الأقاصيص والسير ، ويذكرون لياليهم المقمرة الممتعة ، والزمن رخى ، ووجه الحياة بسام .
     وإذا بلغ الفتيان القرية ، وقربوا من شجر السنط القائم فى شماليها انحرف الساكنون منهم فى شرق البلد عن الجسر ، وواصل الذين يقيمون فى أقصى القرية وغربيها سيرهم فى الطريق ، ثم تفرقوا طرائق على رأس الدروب ، وعصيهم تعمل بحمية ونشاط على ظهور الحيوانات الثاغية الراغبة .
     وكانت القرية تظل النهار طوله فى صمت ووحشة وسكون ؛ حتى تغرب الشمس ، ويهل عليها الغلمان من الحقول ، فتعود إلى حياتها ونشاطها ومرحها ، فلا تسمع إلا صهيل الجياد وخوار الأبقار ، وهدير الإبل ونباح الكلاب ، وصوت العصى على الدواب الهائجة لتستكين فى مرابطها ، وتستنيم إلى الحظائر الضيقة بعد الحرية المطلقة فى الخلاء .. وبعد صلاة العشاء ، تحلب البهائم ، وتعود القرية إلى سكونها وصمتها .
     وقل ما كان يتأخر الفتيان فى المزرعة إلى ما بعد الغروب إلا فى الليالى التى يبكرون فى صباحها إلى المدينة بائعين البرسيم ، ومع هذا فما كانوا يشعرون وهم راجعون فى الطريق بخوف ولا رعب ، ولا يرهبون شيئا من عوادى الليل ، لأن القرية مع وقوعها فى صميم الصعيد ، وبجوار قرى تكثر فيها جرائم القتل والنهب ، آمنة مطمئنة وأهلها وادعون مسالمون .
     تأخر الفتى نعمان فى ليلة من الليالى فى المزرعة ، لأنه اشتغل وحده بحش ثلاثة أحمال من البرسيم للسوق ..
     وكان غلاما فى السابعة عشرة من عمره ، أسمر فى حمرة حديد البصر مديد القامة ، محبوبا من رفاقه ولداته .. وهو وحيد أبويه ..
     رجع نعمان وحده فى سكون الليل إلى القرية ، وتحته أتان مهزولة ؛ وأمامه دابتان قويتان .. بقرة حمراء ، وجاموسة سوداء فتية من خيار الجاموس ، مشهورة فى القرية بلبنها وسمنها ، وما تدره على أصحابها من خير عميم ، وكانت مع طيب عنصرها جافلة نافرة ، فأخذ الغلام رأسها وشد عليه .. وحمل أتانه بالبرسيم ، وساق البقرة أمامه ..
      ومشى فى غلس الليل وحده شاعرا بالسكون العميق والظلام الشديد .
     ولم يكن من عادة نعمان التخلف عن رفاقه فى المزرعة ، ولهذا شعر فى هذه الليلة ببعض الخوف والذعر ، وكان اليوم على خلاف الأيام غائما مقرورًا كثير السحب ضرير النجم ، خيم ظلامه قبل الأوان ، وضرب العشى بجرانه على الحقول والمزارع ..
      وذاب الشفق الأحمر فى سواد فاحم سد عرض الأفق .. وهبت الرياح شديدة قوية فترنح لها الزرع ؛ وحف الشجر القائم على جوانب الطريق ، وكان أرهب ما يخشاه نعمان ، على الرغم من أنه الريفى القح ، مروره بالدواب فى فحمة الليل ووحشته على البساتين ..
      فكان يتصور وراء كل نخلة من نخيل البستان لصًا قائما يترصد فكان يرتعد لهذا ويرتجف فوق الأتان ، ويقبض بيده على زمام الجاموسة ، ويحث البقرة على الإسراع فى صوت خافت جازع ..
      واشتد الظلام وغرقت القرى فى لجته ، وأصبح نعمان لا يرى أبعد من مواضع حوافر الدواب ، وكان وهو يرفع نظره إلى الأفق ، ويرتد به إلى الحقول المجاورة ، يرى السنة نيران تشب ثم نحبو فى المزارع البعيدة .. وكان لومضها ولمعانها فى جوف الظلام ، منظر مرهوب ؛ ترتعد له الفرائص رعبًا ..
      وكانت البقرة لا تسير على جانب واحد من الجسر ، وإنما أخذت تميل إلى اليمين مرة وإلى اليسار أخرى ، وترك نعمان حبلها على غاربها .. مد لها طرف الحبل كلما تياسرت وقربت من النيل .. وأخذ يرقب قلوع المراكب البيضاء ، وهى لبياضها فى سواد وما هنالك نور يتألق ، ثم يسمع بين الفينة والفينة مجاديف الصيادين وهى تجزر بزوارقها عن الشط ..
      وسمع نباح كلاب شديد على العدوة الأخرى من النيل ، بدأ فجأة ، واستمر دقائق كاملة ، ثم خيم سكون الرمس ، وبقيت حوافر الدواب وأظلافها تضرب الأرض بقوة وعنف .
     وأشرف نعمان على بستان « عمر » وهو نخيل وسنط وأعناب ولبخ يمتد من حافة الجسر ويغوص فى قلب الحقول ، وكان من أكبر بساتين القرية وأغناها بالثمر وأشدها مع ذلك وحشة . لأنه يترك معظم العام من غير حراس ؛ ولا يخفره زمن الأعناب والتمر ، إلا شيخ طاعن من الفلاحين ..
      وأطلت على نعمان فروع النخيل ، وهى تميل مع هبات الرياح وكأنها فى عراك دائم مع أشباح الليل .. فوجف قلبه فرقا ، واندفع الدم إلى رأسه ، ولم يستطع رغم رباطة جأشه أن ينزع عن ذهنه المخاوف المفزعة التى ساورته ، وكان خوفه على الدواب أضعاف خوفه على نفسه بل لم يكن خوفه على حياته يستقر فى بؤرة شعوره إلا إذا تصور القتل على أبشع صوره .. الطعن بالسكاكين والتمثيل بالجسم ، وتمزيقه شر ممزق ثم رميه كأحقر أنواع الكلاب فى النيل ..
     وصمت كل شىء حوله ، وبدأ الليل فى هوله مفزعا مرهوبا ، وغاصت الحقول والمزارع فى لجج الليل ، وانقطعت ألسنة النيران البعيدة ، وزادت الثورات النفسية تأججا مشوبة بأقصى ضروب المخاوف ..
      وتياسرت البقرة على عادتها لما حاذت سور البستان ، ولعلها كانت تخاف رهبته كذلك ومالت إلى النور الضئيل المنبعث من النيل ..
      وخيل لنعمان أنه يرى نور سيجارة تومض فى البستان ... ثم سمع صوت انسان ، وزحف أرجل حذرة ، وتقلب بطن كبطون الثعابين .. وتحركت بعده أوراق الشجر وتمايلت الفروع .. على أن هبوب الريح فى تلك الآونة بشدة طردت من رأس نعمان فكرة وجود الإنسان اطلاقا ، وبقى مع هذا خائفا يتوجس ، حتى خلصت أرجل الدواب من سور البستان .. فتنفس الصعداء ، وأصلح حمل البرسيم المعلق على جانبى الاتان ؛ واعتدل على ظهرها وتهيأ للسير السريع ..
     وكان مستغرقا فى خواطر لا علاقة لها برهبة المكان مطلقا .. وانحنى الجسر فجأة انحناء شديدًا ، وتمهلت معه الدواب ، وأطل نعمان على جوف الترعة بجانبه ، وكانت قد عمقت وغابت فى أعماق الأرض حتى بدت كالمغاور السحيقة التى يضل فيها انسان العين ..
      وتلفت مذعورا على صوت أقدام سريعة دوت فجأة .. وأخذته على غرة ضربة نبوت قوية من أشد السواعد وأقواها ، حطت على صدغه ، وانقلب بعدها عن ظهر الدابة يهوى من حافة الجسر إلى بطن الترعة كالحجر الساقط من قرن الجبل ، مقلبًا ظهر البطن ، حتى استقر فى قاع الترعة فاقد الحراك ..
      وجفلت الجاموسة النافرة ، وانطلقت تسابق الريح إلى القرية .. وانطلقت على أثرها رصاصة طاشت عنها ، تبعتها أختها أسد وأحكم ، فأصابت فخذها الأيمن ، ونفذت منه ، وخرجت تئز وتدمدم فى الجو .. وتقطر الدم من فخذ الجاموسة على الجسر وزادتها الرصاصة هياجا وذعرا .
     وقامت على صوت الرصاص الكلاب فى المزارع ، وخف على صياح الجاموسة ونواحها الخفراء والأهالى من القرية ، وخرجوا متفرقين فى المزارع كأشباح الليل الهائجة .
***
     انقطع عبد الحق والد نعمان عن صلاة الفجر فى مسجد القرية واحتبس فى منزله أياما طوالا .
      ولم يكن مع الذين واروا ابنه فى التراب على الرغم من أنه دفن فى ظلام الليل ، كما أنه لم يتلق تعزية واحدة من انسان ، على عادة أهل الصعيد فى أمثال هذه الأحوال ..
      وكانت أشق الأشياء على نفسه أن يجر بعد الحادث إلى بيت العمدة ليدلى بمعلوماته إلى المحقق ، وكانت أجوبته على أسئلة هذا موجزة مقتضبة خالية من دلائل الاتهام ، وإن كان ذهنه قد ابتدأ يحصر الجريمة فى أشخاص معينين بالذات ..
      فقد ذكر شجارا حدث بينه وبين بعض جيرانه فى الحقل كاد يجر إلى أوخم العواقب ، لولا أن مشى بينهما بعض الناس ، وذكر نزاعا بينه وبين بعض المالكين عند ضم المحصول ، استعملت فيه الهروات ، كما ذكر أن الغلام نفسه تشاحن مع رفقائه أكثر من مرة ، وكان آخر المشاحنات غالبا التهديد والوعيد .
     على أن القتل لم يكن للقتل بل كان للسرقة ، قتل الغلام الأعزل لأن اللصوص استضعفوه فى ظلام الليل وارادوا سلبه مواشيه وقد فعلوا ..
     أخذت هذه الخواطر المروعة تطوف فى ذهن الأب وصورة الجريمة على بشاعتها ماثلة أمام ذهنه .. ولم يستطع ، رغم أيمانه المطلق بعدل الله ويقينه الجازم برحمة ربه ، أن يتعزى ويتأسى ..
      فلقد فقد بهجته فى الحياة ، ومتعته فى هذا الوجود .. حشاشة نفسه .. ولده الوحيد القائم على زراعته ، الحارس لدوابه ، الجانى لمحصوله ، ولده النافع .. ولم يستطع وهو الرجل الحديد الأعصاب ، الشديد الأيد ، القوى القلب ، أن يأخذ بزمام نفسه ويضبط جأشه ، بل كان دمه تحت تأثير الصورة البشعة التى مات عليها ابنه يغلى فى عروقه ، ويمزق أعصابه ، ويطير لبه ..
     وكان الحادث مع وقوع مئات الحوادث من أمثاله فى الريف حديث أهل القرية جميعا ، وكان المغرمون منهم بتصيد الأخبار والإضافة إليها من صناعة وجدانهم يزيدون فى وصف الحادث زياده عظيمة ..
      وأخذ شيوخ القرية والراسخون منهم فى الإجرام يسترقون السمع ويمدون البصر علهم يهتدون إلى الفاعل ، ولقد كان نعمان أحسن لهم من فلذات أكبادهم وأطوع لهم من أرحامهم .. وخطا بعضهم بعد جهود متواصلة خطوات موفقة وكاد أن يزيح القناع عن وجه الجريمة .. لولا أن عارضا تافهًا اعترض فى ذلك الحين فضيع هذه الجهود سدى .
***
     أخذ عبد الحق على مر الأيام يستبشر بالصبر وينزل على حكم القدر فعاد إلى عمله فى المزرعة بنشاط وعزم ، وأضاف على زراعته فدانين من ضعاف الأرض أخذ على نفسه اصلاحهما وتسميدهما ، وكان موسم الزراعة قد حل فى جزيرة القرية وهى على العدوة الأخرى من النيل ، فبكر مع المبكرين فى الذهاب إليها .. بيد أنه كان يتخير فى غدوه ورواحه أوقاتا تختلف عن أوقات الفلاحين .
     وكانت أشد الأشياء وقعا على نفسه وأشدها ايلاما لقلبه ، منظر زوجه فى البيت .. فقد انقلب كيان الأم بعد أن مات عنها وحيدها ..
      فذبل جسمها وجف ماء شبابها واصفر لونها ، وتخدد وجهها وبرزت محاجر عينيها .. وكانت المسكينة تنزوى سحابة النهار وطول الليل فى ركن مظلم من البيت ، لا تحادث أحدا ، ولا تخاطب زوجها .. وكان هذا يرى فى بريق عينيها كلما واجهته تعبيرا ناطقًا عما فى نفسها ، وتعنيفًا مؤلما على موقفه كرجل .. على أن الرجل لم يكن مقصرًا قط ..
      فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة أشهر على هذا الحادث المروع فإنه كان لا ينفك يبحث ويتسقط الأخبار ، ويجمع ما يطير من أفواه الناس ، حتى أعياه الأمر وأضناه ، ففتر عن البحث وترك الأمر للأيام وهى وحدها الكفيلة بإظهار الجانى ..
      فليست حوادث القتل من الحوادث التى يمكن أن تضيع معالمها ويختفى أمرها عن الناس جملة مهما كان القاتل أو السارق من الحذروالحيطة وبعد النظر ، وبراعة الذهن والتفنن فى ضروب الاجرام .. وقد يحدث عرضا حادث تافه ، أو يجرى حديث بسيط أو يقع أمر حقير .. فيزاح ستر الجريمة ويظهر أمرها للناس ..
      والقرويون بطبيعتهم فيهم الصبر وعندهم الأناة .. فما يتسرعون ولا يركبون متن الشطط ، ولا يسددون السهم إلى غير قلبه .. ولا يصوبون إلا إذا أبصروا هدفا ، وتراهم فى كثير من الأحايين يدعون القاتل يمرح ويلهو حتى ينسى نفسه ؛ وهم فى الوقت عينه يضيقون عليه الدائرة وينصبون حوله الشباك حتى يقع فى الفخ .
***
     عاد عبد الحق فى ليلة من الليالى من جزيرة القرية متأخرًا على خلاف عادته .. فلم يجد معدية القرية فى مرساها وانتظرها حتى عيل صبره .. فأخذ يتمشى على شاطىء النيل عله يجد زورقا من زوارق الصيادين ينقله إلى القرية .. وكانت الليلة ظلماء ساكنة الريح موحشة الصمت فتثاقل فى سيره وأرهف حسه .. حتى سمع صوت مجاديف خفيفة فمد قامته وسدد بصره فى حجب الظلام فبصر بسواد يتهادى نحو الشط فلبث قليلا ثم هتف بمن فى الزورق ، فألفاه يجزر عن الشط بعد أن كان يقترب منه ، وهى حركة طبيعية مألوفة من الصيادين .. الصيادين من سكان المدينة على الأخص ، فهم يرهبون الريفيين ويتقون بأسهم ويتحاشون وجودهم ، ويتصورون أنهم بالإجماع لصوص فاتكون ما يخرجون فى رهبة الليل إلا لتصيد الناس .. وما أسهل من أن يغير فاتك قروى على زورق من زوارق هؤلاء الضعفاء المساكين، فيسلبه سمكه وماله ، ثم يلقى بمن فيه فى النيل .. !
     وابتسم عبد الحق لما رأى الزورق ينقلب على عقبيه ، ويرتد عن الشط .. ثم سار فى طريقه بعد أن صب اللعنات على من فيه ..
      واتجه نحو السد حتى غابت عنه القرية ، وانقطع عنه نباح كلابها .. وكان قد قرر الرواح حتى ولو بلغ السد .. ودار كل هذه الأميال ، لأن تخلفه عن بيته سيبعث الوساوس والشكوك فى نفس زوجته الثكلى ، وربما طير صوابها ..
     وسمع على بعد صوتا يشبه صوت أقدام تتخبط فى الماء .. فدلف نحو الصوت حتى اقترب منه.. فوجد صيادا يجر زورقا صغيرا ويغالب به التيار الشديد فسر لمرآه ورأى أن يتسلل خفية ، حابسًا صوت أقدامه ، حتى يقترب منه .. فأخذ يتلصص فى مشيته حتى كان بجانب الرجل ، وبادره بالتحية فرد الصياد ، وفى صوته الرهبة ، وعلى ملامح وجهه الجزع ..
     فأخذ عبد الحق يحادثه حتى سكن طائره ، واطمأن قلبه ، ثم رجاه أن يعبر به النيل فقبل ، وأخذ يطوى الحبل وفى حركة يديه دلائل التذمر .
     وانطلق بهما الزورق وكان الصياد على عكس الصيادين ـ وهم يلزمون دائما جانب الصمت حتى لا تخيب شباكهم ـ ثرثارا كثير الخلط فى الكلام ..
      فأخذ يقص على عبد الحق طرفا من سيره ونوادره ، وحوادثه مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول .. ويطلبون الرواح بعد نصف الليل ، وبطونهم خاوية .. !
     واستمر فى ثرثرته الفارغة حتى بلغا منتصف النيل ، وهنا انطلقت رصاصة فى الجو ، وهى تدمدم .. وأزيزها عند آذانهم .
     فقال الصياد وهو يشد على مجاديفه :
     ـ دائما الرصاص فى القرى .. دائما الرصاص فى الليل .. لو كنت واقفا لقتلت ..
     فقال عبد الحق وقد نبشت الرصاصة دفائن شجنه :
     ـ عمرك طويل ... ! 
     فقال الصياد ضاحكا ، وقد سره أن وجد ما يسل لسان صاحبه بعد طول احتباس وطول صمت :
ـ أجل .. فعمرى طويل حقا .. لقد مرت رصاصة ذات مرة هنا عند شحمة أذنى .. فأخذت أذنى تطن ساعة .. وكان ابن اللعينة « علام » جالسا فى المؤخرة يضحك .. أجل واللّه كان يضحك والرصاص يصافخ رأسى .. وهو رابض كالليث لا يغير جلسته ولا تغيب الابتسامة عن وجهه .. وكانت عيناه تلمعان كعينى صقر يريد أن ينقض على فريسته .. 
     وصمت الصياد قليلا ليصلح مجاديفه ثم استطرد :
     ـ وجدنى الملعون على الشاطئ .. فقال بلهجة الآمر وفوهة بندقيته عند أنفى .. هيا اعبر بى النيل مسرعا .. هيا .. وكان الشرر يتطاير من عينيه .. ثم سمعت على إثر ذلك الرصاص يدمدم .. فأدركت أنه مطارد فحركت المجاديف وأنا أنتفض من الذعر .. وكان يقول بصوت أجش .. أسرع ولا تتحدث .. وإلا فأنت تعرف مصيرك .. وبالطبع أنا أعرف مصيرى هناك عند سفح الجبل ! .. ولهذا لم أتحدث بما جرى لأحد ولن أتحدث ... ! 
     وانطلق الرجل فى ثرثرته وصاحبه لاه عنه بما يدور فى رأسه من خواطر حتى اقتربا من الشاطىء .. وهنا لمح عبد الحق سوادا يتحرك على بعد .. ثم ومض سيجارة .. فلما كان الزورق على مسافة أمتار من الشاطئ ظهر رجل ضخم الهامة ، بادى الطول ، قد عصب رأسه وأسفل ذقنه بعجار أسمر ، وغطى بندقيته وألواح كتفيه بملحفة لا لون لها .. وكان يتمشى وهو يدخن ، فلما اقترب منه الزورق ، قال موجها كلامه إلى الصائد ، وكان صوته خشنا مرهوبا ؛ كأنه يتردد قبل خروجه من حنجرته فى أعماق بئر ما لها من قرار :
     ـ أحمد ..
فأجاب الصائد :
     ـ نعم يا علام .. مساء الخير .. من أين .. ! 
     ـ من القرية طبعا .. ! 
     ـ وما الذى تريده فى هذه الساعة من الليل يا أخى .. ؟ 
     ـ أريد الرواح .. هل تتصور أنى سأبات هنا .. 
     ـ لا طبعا .. 
     ـ من معك .. ؟ 
     ـ رجل طيب من القرية عم .. 
     فأتمم عبد الحق كلام الصائد :
     ـ عبد الحق .. 
     فصمت الرجل ولم يقل بعد ذلك شيئا ، ووقف يدخن .. وكان الزورق قد بلغ الشاطئ ، فنزل منه عبد الحق ، وواجه الرجل .. ورأى فى بريق عينيه وملامح وجهه الساكنة الصارمة .. ما ألهب خواطره ولما اقترب عبد الحق منه ضاقت عينا الرجل قليلا ، وتقلصت شفته السفلى بعض الشىء ، وانفرجت أسنانه ، فعل من يهم بالكلام ، ولكنه تراجع وتماسك ، لسانح فى ذهنه ، فابتسم ابتسامة نكراء ..
      ومر عليه عبد الحق دون أن يحييه .. ولما نزل الرجل فى الزورق ، وقف يرقبه على بعد حتى غاب عن بصره ، واحتواه النيل .
***
     كان الشتاء قد حل والقصب قد نضج واستوى عوده وسمقت فروعه .. وكان عبد الحق فى طريقه إلى القرية ، وقد ترك المعدية ، واتخذ لنفسه طريقا وسطا بين مزارع القصب الكثيرة التى لا يأخذها الطرف كانت آلاف مؤلفة من الأفدنة لثراة أهل البلد وعيونها وهى خير محصول وأجنى ثمر ..
      وكان الرجل يمضى فى الطريق وحيدا وهو يشخص ببصره من حين إلى حين إلى النيران البعيدة المشتعلة فى أقصى المزارع ، وكان الليل فى هزيعة الثانى والرياح عاصفة ، والبرد شديد قارس ، وحملت الريح إلى عبد الحق صوت كلاب أخذت تنبح بشدة ، ثم خفت صوتها تدريجيًا ، ثم حمى الصوت واشتد مرة أخرى ، وانقطع بعدها فجأة ..
      فوقف فى مكانه ورمى بصره فيما حواليه ، وقد ساورته خواطر الريفى الذى يعرف لهذا النباح المفاجئ فى جوف الليل سببا .. ولم تكذبه فراسته .. فقد أهلت عليه من أقصى الطريق ماشية تساق سراعا ، ما لبث أن تجنب بها سائقوها الطريق المألوف ، وتياسروا بها إلى بطن واد قريب يتجه إلى النيل ..
     فوقف عبد الحق هنيهة ، وبصره مستقر على الدواب ثم انخرط فى إثرها بعد أن خاف أن يغيب عن نظره .. وسار فى بطن الوادى ثم كمن فى بعض المغاور التى يحفرها الفلاحون لشواديفهم ، ورقب بعينى نسر .. وبعد لحظات مرت الماشية أمامه.. وكانت كلها أبقار من بينها ثور ضخم هائج ، قد من أنفه ، وأخذ من قرنيه ، وكان على الرغم من الضرب الشديد النازل على ظهره وجنبيه ، لا يغير خطوته ، ولا يحرك جلده ، وانما أخذ يدفع رأسه إلى فوق ، ويرمى ضاربه بنظرات ينخلع لها قلب الشجاع ، وكانت الأبقار كلما تحولت عن طريق الثور وحادت عنه ، ترد على أعقابها لتكون وراءه دائما ..
      وتصور عبد الحق أنه يرى بقرته فى هذا القطيع ، رأى بقرة تشابه بقرته ، ولكنها لم تكن غراء مثلها .. نظر إلى هذه البقرة وأمعن فيها البصر وقلبه يزداد وجيبه ، والذكريات المرة تنهش رأسه ..
      ثم انقلب بصره عنها واستقر على شىء آخر.. على الرجال الثلاثة الذين كانوا يسرقون الدواب ، وعلى واحد منهم على التعيين ، وكان يمشى فى المؤخرة بعد الماشية بخطوات ويتطلع من حين إلى آخر إلى الخلف .. تذكر أنه رأى هذا الرجل بقامته الفارعة ولفتاته ونظراته الحاده .. كان هو علام بعينه الذى حدثه عنه الصياد ، والذى التقى به عرضًا فى تلك الليلة التى تأخر فيها فى الجزيرة كان علام فى هذه الليلة صارم الملامح .. ولكنه كان خفيف اللفتة قلق النظر ، يتأهب للحوادث ..
     ولما قربت الماشية من النيل ، رأى عبد الحق مركبا راسية طاوية قلوعها ، ما لبث أن خرج منها نوتيان عرف أحدهما ، كان هو صاحبه الصياد بعينه..! فنظر عبد الحق إلى هذا الرجل ومرت على شفتيه ابتسامة .. ونزلت الماشية فى المركب دون أن يتبادل الرجال الخمسة كلمة واحدة .. وحدث أن سقطت رجل بقرة من الأبقار بين دسر المركب فتركت كما هى ..
     وسارت المركب صوب الجزيرة ، وعاد عبد الحق إلى القرية ..
***
     وصل إلى سمع عبد الحق ، بعد ذلك الحادث بأيام ، همس يدور على أفواه الناس .. ذلك أن هذه الحيوانات سرقت فى فحمة الليل ، ثم حبست شهورا فى بعض البساتين ، لا تخرج لمرعى ولا تساق لمسقى .. حتى هدأت عنها الألسنة وغفلت العيون .. وهنا سربت على هذه الصورة فى سواد الليل ورحلت مع قطعان كبيرة إلى جهة نائية .. وعلم أيضا أن بقرة واتانا حبسا فى هذا البستان بعينه .. ثم أخذا فى فجر يوم ولا يعلم أحد إلى أين ذهب بهما.. وإن كان يحتمل ـ لأن السرقة صحبتها جريمة قتل ـ إن البقرة ذبحت .. أما الأتان فألقيت فى النيل ، وكان علام هو الذى سرب الدابتين ..
     وعلى ضوء هذا واصل عبد الحق جهوده فعلم بعد بحث مضن استغرق أياما أن اللصوص كانوا فى تلك الليلة الشنعاء سبعة .. وكانوا يقصدون مزرعة لبعض الثراة .. ثم فلتت من أيديهم الفرصة ، بعد أن علموا فى اللحظة الأخيرة أن الخفراء ساهرون وعلى أتم استعداد .. والتقوا وهم مرتدون خائبون بنعمان عن عرض فوجدها علام فرصة ذهبية سانحة .. وحرض رفاقه.. فرفض منهم عربيان أصيلان أن يسرقا غلاما أعزل ، على صورة دنيئة لا يرتكبها إلا الجبناء .. ووافق على نهبه الباقون .. وكمن له علام وأخذه على غرة ..
     وعرف عبد الحق بعد ذلك الشىء الكثير عن علام هذا .. وهو أنه مجرم يسكن عزبة .. «ج» .. ويعيش على السرقة والنهب .. فيترصد التجار العائدين من الأسواق ويسلبهم ما لهم ومتاعهم ، ويفر بغنيمته فى الحقول فرار الثعلب ..
      وهو مع لصوصيته ، لا يغفل نداء قلبه ، وحاجة جسمه ، فهو يتردد على أرمل من جميلات القرية مات عنها زوجها منذ سنين ، وخلفها وحيده الأهل .. وهى مع جمالها سيئة الخلق عصبية المزاج حادة الطبع .. وكانت فى صباها مطمع أنظار الشبان من الأعيان ثم كبرت وترهل جسمها نوعا ، على ممر الليالى ، فتركها هؤلاء .. وانحط مستواها بعدهم وأصبح لها ولع غريب بالفتيان الأشداء الذين دون العشرين ، وكانت تغريهم وتستحوذ عليهم بكل الوسائل ..
      وكان يساعدها على هذه الحياة الماجنة بيتها القائم فى طرف القرية منعزلا عن سائر البيوت ، وحوله بساتين كبيرة من النخيل والأعناب ..
     وكانت مع حياتها الماجنة هذه تتحدث دائما عن سمعتها وشرفها، وتكثر من الترحم على زوجها .. المرحوم !
     وكان علام يتردد على هذه المرأة فى بعض الليالى المظلمة ، ويرجع إلى عزبته عندما يرسل الفجر أول بصيص من النور ..
***
     كانت المعدية الأخيرة ، والنقلة الأخيرة ، من غرب النيل إلى شرقه وكانت غاصة بالفلاحين العائدين من المزارع ، والقافلين من السوق ، والراجعين من المدينة .. كانوا يتحدثون عما شاهدوه فى المدينة وما ابتاعوه من السوق ، وقد نشروا على عواتقهم شيلانهم الزاهية ، وملاحفهم الحمراء الجديدة .. كانوا مبتهجين فرحين ، تطوف فى رؤوسهم ذكريات الصور الجميلة التى مرت عليهم ، وأخذت بألبابهم ..
      وكانوا يديرون رؤوسهم من حين إلى حين إلى مؤخرة المركب ، حيث يجلس نفر من أبناء الأثرياء الراجعين من المدرسة ، والعائشين فى المدينة ، كانوا عندهم صورة حلوة للعيش الرغد ، والتمرغ فى النعيم ، والتمتع بمباهج الحياة وملذاتها دون أن يضربوا فأسًا أو يبذلوا جهدا.. كل جهودهم تنحصر فى تقليب صفحات كتاب .. ! وهل فى هذا جهد .. هل جهود سكان المدينة جميعا من هذا الطراز .. إذن ما أحلى العيش فى المدينة ..
     كانوا ينظرون إلى هؤلاء الطلاب نظرة إكبار وإجلال ، وهم خير مثال يحتذى ؛ وخير آمر يطاع ، كانوا ينصتون إلى كل كلمة تخرج من أفواههم ، وكل حديث يدور بينهم لعلهم يهتدون إلى نور العلم ، ويخرجون من الظلمات ..
     وكان النسوة الجالسات فى ركن منعزل من السفينة يتطلعن إلى هؤلاء الطلاب ، ويملن على بعضهن هامسات باسمات ، وخدودهن الوردية تفيض بماء الحياء ، وعيونهن الناعسة تلمع ببريق أخاذ ..
     وكان عبد الحق وعلام من ركاب هذه السفينة أيضًا بيد أنهما لم يكونا متجاورين .. كان كل منهما يحادث رفاقه .
     أما صاحب السفينة وقائدها فقد أسند جنبه الأيمن إلى مقبض الدفة ، وطفق يتطلع إلى السماء ويرقب القلع .. ثم عالج أخيرا حبلا قريبا منه ، وشد به على ناصية القلع .. عله يشيل .. ولكن هيهات .. ! فقد كان الهواء معاكسًا والتيار القوى يرد السفينة إلى الخلف أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام .. حتى وقفت المركب فى وسط النيل ، كأنها لا تتحرك ، أو كأنها تتراجع ..
      وأخيرا صاح النوتى وهو يحول الدفة :
      ـ حسن .. عباس .. هيا يا أولاد إلى المجاديف ...
     فنهض إلى المجاديف أربعة من الشبان الأشداء ، ظهر أثر تجديفهم بعد قليل من الزمن ، فقد تقدمت المركب مغالبة التيار ، على أن النوتى لم يقنع بجهود الشبان الأقوياء فأخذ يهيب بهم ويحثهم بقوله :
     ـ ما هذا .. ! ما هذا التجديف ..! رحم اللّه أيام الشباب .. كنا نقود أنا وصالح مركبا تحمل خمسمائة أردب ونحمل الأردب من القمح .. كما يحمل حسن حزمة من القش ..
     فقال أحد الطلاب يمازح النوتى :
     ـ ومع هذا فقد ضربك عبد المقصود وطير أسنانك ..
     ـ من قال لك هذا يا بنى .. ؟ .. هل كنت حاضرا .. ؟
      صحيح أنه ضربنى ولكنه لم يطير أسنانى .. وقد شكوت هذا الشاب الطائش إلى ربى فانتقم منه شر انتقام ..
     ـ عندما يضربنى رجل على فكى الأيمن ، لا أدير له الأيسر ، وإنما أضربه على أم رأسه فأطير فكيه معًا ..
     فسأله أحد الفلاحين وهو يضحك :
     ـ وإذا ضربتك امرأة .. ؟
     ـ أعرف كيف أرضيها .. ! 
     ـ ها .. ها ..
     واتجه الفلاحون جميعًا إلى هذا الطالب .. وقد كان كلامه طيب الوقع على نفوسهم .. وإن كانوا لا يتوقعون منه مثل هذا الكلام .
     واعترض عليه أحد رفقائه :
     ـ كيف تطير فك مخلوق بشرى مثلك .. هذه وحشية وفظاعة .. واجرام .. دع أمره إلى اللّه وهو خير مقتص ..
     ـ هذا صحيح .. أنا مسلم بأنى لو ضربت انسانا مثلى على أم رأسه أعد فى نظر الناس ، ونظر الاجتماع وحشًا وفظًا غليظ القلب .. ولكن المرء فى مواقف كثيرة لا يملك أمر أعصابه ، وزمام نفسه .. يعود إلى فطرته ، إلى طبعه البكر قبل أن يهذب ويشذب ، فلا يرده حلم ولا يردعه زاجر .. عندما يضربنى انسان فيطير لى سنة لا أدعه حتى أحطم أنفه .. أفعل هذا دون وعى منى ، ثم بعد ذلك أفكر هل أحسنت صنعا بعمل هذا أم أسأت .. هل فى عملى هذا وحشية وجرم .. أفعل هذا ثم يأتى بعد ذلك دور التفكير ، ودور الندم .. من منكم يستطيع أن يغل يده إلى عنقه عندما يعتدى امرؤ على عزيز لديه .. ابنه .. فلذة كبده ..
     ـ هذه أعمال اجرامية تجر إلى الفوضى ..
     ـ هذا حق .. ولكنها قد تحدث عكس ما تتصور تماما ، فمتى عرفت أنك متى صفعتنى سأصفعك ، تراجعت وجبنت حتى ولو كنت أشجع الشجعان .. من منكم يجرؤ على صفعى الآن وأنا ألقيه فى النيل .. ! ..
     فقال شيخ مهدم :
     ـ أنا ..
     ونهض .. فضجت المركب بالضحك ..
     وكان عبد الحق ينصت إلى هذا الحوار الدائر بين الشبان باهتمام شديد .. والخواطر السابحة فى قرارة ذهنه قد طفرت وعادت تهيمن على شعوره ، ومازال يغالب انفعالات نفسه ، حتى غفل عما يدور حوله واستغرق فى أمر نفسه ، وهو شارد ساهم ..
     ولما فتح باب منزله فى غلس الليل كان قد اعتزم أمرا ..
     بارح عبد الحق منزله فى ليلة من الليالى وسار صوب المزارع ، وكان يمضى سريعًا وفى جسمه قوة لم يعهدها من قبل ، وكان مستريح الذهن هادىء البال ، قد أزاح عن صدره كل ما كان يثقله ، وصرف عن ذهنه كل ما كان يقلقه ويحيره فى الماضى ، ووجه نفسه إلى أمر واحد تجمعت فيه قوته وحيويته .. ولهذا شعر بدم الشباب يسرى فى الياف جسمه ، وبقوة عظيمة تحمله على المضى فى طريقه ..
      وكان يرتدى رداء أسود فوقه عباءة من الصوف الثقيل ، وتحت هذه بندقية من النوع الجيد .. وكانت الليلة حالكة الظلام ، شديدة الريح ، والشتاء فى صميمه ؛ وبرده الحاد يقطع الأنفاس ويحبس الناس فى بيوتهم من الغروب فلا يتخلف من الفلاحين فى الحقول إلا أولئك الذين اتخذوا للشتاء عدته ، فبنوا لأنفسهم عرائش من عيدان الذرة ، وأشعلوا حولهم النيران وجلسوا يصطلون ..
      وكان عبد الحق لا يقصد حقلا من الحقول البعيدة التى يتخلف فيها الفلاحون ، وإنما كان يقصد حقلا قريبا من القصب يطوق الجانب الشرقى من القرية ، كان يمر فيه علام كلما عاد من منزل المرأة التى يتردد عليها .. اتقاء للعيون ، ودفعا للشبهات ..
      ولما بلغ هذا الحقل مضى قدما فى طريق ضيق بجانبه ، ثم ارتد إلى حيث اختار ودخل بين القصب ، وجلس متمددا يدخن ..
     ومضت عليه ساعة .. وعادت بعدها إليه الهواجس التى كانت تبلبل خاطره من قبل ، رجعت إليه خواطر المتردد ..
      رجعت إليه الصور التى تمر على المجرم قبل الساعة الفاصلة .. قبل ارتكاب جرمه بلحظات .. والتى يخرج منها وقد قطع بأمر .. وقف وقفة الرجل الحائر عند مفترق الطرق المتشعبة والذى لا يدرى من أين يمضى ويسير ..
      عاد إلى إنسانيته ، وإلى طبيعة الخير فيه ، تذكر وتصور لأول مرة فى حياته أنه سيقتل إنسانا ، بشريا مثله من لحمه ودمه .. عربيا من جنسه .. شابا ناضر الأهاب فتى العود أمامه الحياة الطويلة ، وليس شيخًا مثله قد بلغ من العمر أرذله ؛ ومن الحياة منتهاها .. بيد أنه شاب متمرد .. شاب تمرد على الحياة ، وتمرد على الاجتماع ، وخرج على القانون ، وغدا مجرما .. ولكن من الذى دفعه إلى الاجرام ، من الذى رمى به فى هذه الطريق .. ؟ من الذى سلبه نفسه وقلبه وجرده من انسانيته ورجع به إلى وحشيته الأولى وجاهليته الأولى ، من الذى ألقى به إلى التهلكة فأصبح منبوذًا مطرودا ؟ من الذى فعل به كل هذا ؟ ظلام الجهل بلاء الفقر قسوة المجتمع ، هل فى هؤلاء الغلمان المهذبين من أبناء الأعيان الذى رآهم فى المركب منذ أيام متمرد .. ؟ هل فيهم جاهل تقرأ على وجهه دلائل الإجرام كما تقرأ على وجوه هؤلاء الريفيين الذين يتقاتلون على أتفه الأشياء ..
لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان ..؟ ليأخذ بثأره .. ولماذا يأخذ بثأره ..؟ لماذا يفعل هذا ..؟ لماذا لا يدع الأمر لربه ..؟ وهو خير مقتص .. لماذا يثور هو الآن ويضطرب اضطرابا لم يعهده فى جسمه .. ؟ لماذا يتراجع بعد أن أجمع أمرًا .. لماذا يفكر هكذا .. ؟
      لماذا قتل هذا المجرم ابنه .. ابنه الوحيد الحبيب نعمان .. مبتغاه فى هذه الحياة الدنيا ، ضربه ورماه فى جوف الترعة فى هذه الصورة المنكرة .. ؟
      وأصبح عبد الحق لا يرى الآن إلا ابنه .. ولم يكن يراه وهو يعمل فى الحقل ، أو وهو راجع من المزرعة ، وإنما رآه وهو ملقى فى بطن الترعة مضروبا كأحقر الكلاب ..
      وهاج على هذه الصورة هياج الليث الكاسر .. ومسح العرق ، ورمى طرفه إلى أقصى ما يبصر ..
      وسمع حسا فأنصت وسدد بصره ، وانبطح على وجهه ، وألصق البندقية بكتفه الأيمن .. وصوب ماسورتها من بين عيدان القصب ، وكان قد تخير مكانا مناسبا فى بطن الحقل يشرف منه على طريق صاعد قرر أن يأخذ فيه غريمه .. وجذب أكرة البندقية وسمع حركة الرصاصة تندفع إلى الماسورة متهيأة لضغط الزناد .. وكتم أنفاسه وأنصت .. ومرت ساعة رهيبة وعاد كل شىء ساكنا موحشًا ..
      وتحركت عيدان القصب ، ورجعت الرياح تعصف ، واشتد البرد واستولى على عبد الحق القلق ، وخاف أن تفلت منه الفرصة .. وسمع فجأة حس إنسان ووضح الصوت وكان يعرف صاحبه ، فتراجع إلى الوراء خطوات وعينه لا تتحول عن الطريق ، وقرب صاحب الصوت .. وكان سقاء القرية يمشى وراء حماره الذى حمله بالقرب حتى انحنى ظهره ، وهو يضربه ضربا موجعا مع أنه ضامر هزيل أعرج .. ولما قرب السقاء من مكمن عبد الحق تلفت .. كأنه يسمع أنفاسا .. ثم مضى وراء حماره وقد حلى له أن يغنى ..
     وعاد عبد الحق إلى مكانه الأول ، وقد شعر بعد مرور هذا السقاء بالارتياح الشديد ، وقد انتفت عن رأسه الهواجس التى ساورته أول الأمر ، وهو متردد بين الاقدام والاحجام ؛ وعاوده الحنين إلى الانتقام وأصبح فى الساعة التى تمر على المذهول ، وقد وقفت سلسلة أفكاره جملة ، وغفل عن كل شىء حوله إلا ما انتوى ..
      وكانت الرياح كلما توغل الليل تزداد شدة وعصفا ؛ فثارت ثورة النيل ، وهاجت مزارع القصب وتمايلت بساتين النخيل ، وتطايرت فروع الزرع الجافة واغبر الجو واكفهر ، فجمع عبد الحق حواسه كلها فى باصرته ورقب الطريق ..
      ولاح على بعد شبح انسان ، ثم رجل فى ثوب داكن وقد غطى رأسه وعنقه .. وكان ثابت الخطوة يمشى على مهل ، ولا يعير باله لما يجرى حوله ، ولما قرب من مكمن عبد الحق تمهل فى سيره جدًا ، وتلفت كالمذعور .. وهنا صوب عبد الحق ونشن وضغط على الزناد .. وبصر به يهوى مع ومض البارود .
***
     أخذ عبد الحق سمته إلى المقبرة لأول مرة بعد حادث ابنه ولقيه فى الطريق وهو راجع منها قبل الفجر مجذوب من هؤلاء المجاذيب الذين يترددون على الأذكار فشخص فى وجهه ثم مد له يده وعلى شفتيه إبتسامة بلهاء وقال له :
إنا لله 
     فانتفض عبد الحق ومد إليه يدًا ترتعش والتقت أعين الرجلين ، وكانت عينا المجذوب تلمعان فى بلاهة وخبث .. أما عينا عبد الحق فقد أخذتا تنطفئان بالتدريج ..
=============================== 
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " فندق الدانوب " سنة 1941  وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " عام 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
 
طريق الفناء

عندما تطفأ مصابيح الغاز فى شارع عماد الدين ، فى حى الملاهى ، وتبدأ بشائر الصباح فى الحى الجميل ، تتحرك عجلات الترام على القضبان ، يسير المترو من أول محطة إلى نهاية الشارع على درجة واحدة من السير ، ولكنه عندما يقرب من عمارة " بولاد" ويميل إلى شارع الملكة نازلى يخفف من حدة سيره ، ويحبس من سرعته ، وهذا ما يجعل العجلات الخلفية تصر وتدوى وهى تزحف على القضبان .. عند هذا المنحنى الذى يهدأ فيه سير الترام .. وعند مفترق الطريق ، وعلى الرصيف الأيسر إذا استقبلت الشارع الأول بوجهك وجعلت الشارع الثانى وراء ظهرك ، تجلس امرأة من أولئك التعساء المناكيد الذين يقضون الليل على الرصيف .. تجلس وهى تدير ظهرها للطريق تستقبل بوجهها الحائط .. تستقبل بوجهها جدار بعض الأبنية الشاهقة القائمة هناك ، تستقر عيناها على الجدار ولا تتحول عنه إلا لماما .. فلذة كبدها ، وبعض نفسها وجسمها ، ينام هناك ، وليست تحت رأسه الوسائد ، ولا عند جنبه الرياش .. ولا فوق جسمه الغطاء الصوفى الثقيل .. لا .. لا .. إذا فكرت فى هذا فقد أسأت إلى الاجتماع الانسانى وقلبت أوضاع الحياة .. وشوهت حقائق الوجود ..! ليس عليه سوى ملاءة سوداء خفيفة ممزقة الأطراف ، ملوثة الجوانب ، تديرها أمه على عنقها فى النهار ، وتطرحها عنه إلى ابنها فى الليل .. وجسمه كله على الأرض المقيرة الباردة ، وجنبه الأيمن يلاصق الجدار وكان إذا وضعته أمه على جنبه الأيمن لا ينقلب إلى الأيسر ، ولا يتحرك حركة الغلام المعافى وإذا فتح عينيه يتململ قليلا ويدفع ذراعه المعروقة إلى الأمام فى حركة مشلولة وانية ، وتنفرج الأصابع قليلا كأنها تشير إلى شيء .. ثم يسترخى الذراع ، ويتمدد على الأرض ، وأمه ترقب هذا بعين دامعة ، تعرف أنه لا يستطيع الحركة ، لا يستطيع حتى التعبير عن آلامه الدفينة ، لا يستطيع حتى التذمر .. كان صدره الواهن يتمزق ويتمزع ، ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن هذا بغير السعال الشديد الذى يزيد صدره تمزيقا ..
وعندما يتلع الضحى ، يفتح الصبى المسكين عينيه ، ويدور ببصره الرجراج فى الطريق ، وهو يتململ فى ثقل وفتور ، وفى عينيه رغبة قوية تعرفها أمه ، فتنحنى عليه وترفعه عن الأرض .. وتضمه هنيهة إلى صدرها ، ثم تجلسه فى حجرها وهى تهز وركيها ، وتمسح شعره بيديها .. إذا نظرت إليها وهى تنحنى بجسمها على جسمه وتقبل بوجهها على وجهه ، وتضع شفتها على شفته ، رأيت حنان الأم فى أكمل صورة وأبدع مظاهره ، إنها تود لو تسكب من دمها فى دمه ، وتنفخ من روحها فى روحه .. كانت تمر بأنفاسها اللينة على وجهه ، وتلصق جسمها الحار بجسمه ، ليعود إلى العافية ، ويفئ إلى الصبا ، ليلهو ويمرح ويلعب كالصبيان ، ولكن هيهات ، كانت تنظر إليه دائما بعين مخضلة بالدمع والأسى يحز فؤادها ويفطر كبدها .. تيقنت أخيرًا أن أمره أفلت من يدها .. الغلام الحبيب الوحيد لم يعد لها .. الغلام الحبيب يذوى ويذبل ويموت فى بطء وعذاب وألم .. الإنسان الوحيد فى جو حياتها يتألم ..؟ وينتفض من البرد ، ويرتعد من الحمى الشديدة المضنية ، بعد مولده بأيام كانت على يقين من موته ، ولكنه عاش فأدرك ربيعه الثالث .. كيف ..؟ لا تستطيع أن تفهم .. كان دائما مريضا ، لاصقا بالأرض ، ناحلا هزيلا أصفر الوجه ، غائر العينين شاحب الجبين ، لا يبتسم ولا يضحك ، ولا يتحدث بصوت عال ، كان صوته خافتًا مذبوحا كأصوات النائحات النادبات ، وكانت عيناه منطفئتين ذابلتين ، أبدًا تتعطشان للنور .. لم يكن كالغلمان اللذين يكسبهم النوم فى العراء مناعة طبيعية ، بل كان على النقيض من ذلك .. يزيده البرد وتقلب الجو مرضاً على مرضه .. وكانت أمه تملأ بصرها منه وقلبها يتقطع ، ونفسها تحترق وتذوب ، وتغشاها سحب الهم ، فتغض طرفها ، وتنكس رأسها وتفكر ، وهى تعبث بطرف جلبابها الأسود ، الذى يلف جسمها الممتلئ اللين ، أو ترسم بأصبعها على الأرض دوائر وخطوطًا أوسع من دائرة حياتها الشقية .. فإذا زلت طرحتها عن شعرها عادت تصلحها وتسبلها على وجهها ، وتديرها على جيدها ونحرها ، وتتركها حتى تلامس الأرض المقيرة .. وكان لباسها الأسود يكسبها جمالا فوق جمالها وحسنها .. فعلى الرغم من تعب الحياة ونكد العيش ، فإن جسمها ووجهها احتفظا بشبابهما ونضارتهما وعافيتهما .. كل ما يغيرها عن الأخريات من لداتها اللاتى هن فى مثل سنها ، ولكنهن لسن فى مثل بؤسها .. أن وجهها الجميل كان دائما حزينا باكيًا ، على أن جسمها بقى بضا لينا ناضرًا .. وإذا أمعنت النظر فى نحرها ، رأيت الحد الفاصل بين الجسم الأبيض الناعم والنحر الأسمر الملفوح بشمس الصيف .. وإذا مدت ساقيها لتستدفئ بحرارة الشمس ، رأيت ساقين خدلتين فى بياض ونعومة وفتنة ، تشوبهما حمرة خفيفة تأخذ فى الزيادة كلما قرب الساق من القدم المشقق الباطن من تعب السير فى الطريق ..
وعندما يظهر النهار ، وتشتد حرارة الشمس ، تميل إلى اليمين لتفئ إلى الظل .. إلى ظل عمود المصباح القائم هناك ، وكثيرًا ما كانت تعروها سحب الهم ، فتمد راحتها على حجرها ، وصدرها ينوء بثقل الحزن الدفين القاتل ، ويضطرب من الخيبة الشاملة المحيطة ، لم تكن وهى تبسط يدها تستجدى ، ولا كان شعورها الباطنى يوافقها على أن تسأل المارة .. أبدًا .. أبدًا .. ما كانت تفعل ذلك .. كانت تجلس فى صمت وسكون ، ورأسها مطأطأ وغلامها على حجرها .. ويدها على فخذها ، فإذا نظرت إليها ، وأخذتك الشفقة عليها ، ووضعت فى يدها شيئًا .. رفعت طرفها الضارع إليك ، فتذهل أمام نظراتها الذليلة وتفتن .. إنك لا تستطيع أن تواجه هاتين العينين السوداوين اللتين تديمان النظر إليك فى سكون ولكنك لا تقرأ فيهما شيئا مطلقًا ، لا تعابير الشكر ولا دلائل الثناء .. تثبت العينان فى محاجرهما مدة ولا تطرفان ، فإذا انسحبت من أمامها ، تنطبق الأهداب الوطف على العينين الساجيتين .. وينطفئ السحر العجيب لحظات ، ثم تعود العينان لتستقرا على الأرض ..
وحين يولى النهار ويسقط الليل .. وتشعل مصابيح الشوارع .. وتتلألأ ثريات الملاهى والمقاهى .. تكثر الحركة فى الطريق ، وتبدأ السيارات الفخمة التى يقودها الشبان الناعمون الطائشون تخطف فى الطريق ، فإذا مرت أمامها دفعت الوحل إلى الرصيف بقوة وجنون فيحط الكثير منه على ثوبها ، فلا تراها تنفضه ولا تحرك ساكنا ، ولا تحرك شفتيها بسب ولا لعن ولا تذمر ، ولكنها تديم النظر فى المكان وبصرها سادر كأنها تتخيل وتتصور وتحلم ..
وحين يخف رواد مقهى " بيرون " ترى المرأة غلمان الشوارع عن بعد يجمعون أعقاب السجاير فى حذر وخوف ورعب .. يبدأ هؤلاء الغلمان العمل فى ساعة معينة من الليل .. لا يتأخرون عنها ولا يتقدمون ، وهى الساعة التى تنتقل فيها المرأة من مجلسها لتتهيأ لعملية النوم الشاقة فى العراء ، تزحف فى بطء حتى تلاصق جدار العمارة ، وتضع غلامها فى حجرها حتى يستغرق فى النوم أولا ، ثم تنام بعده إن طرق جفنيها نوم ..
ولم تكن الليلة ككل الليالى ، بل كانت شديدة البرودة ، قوية الهواء .. كان الهواء يهب من ميدان المحطة ، وينخرط فى شارع الملكة نازلى .. فيرنح الأشجار ويضرب الوجوه .. وعندما يميل إلى شارع عماد الدين ، يدفع إلى العمارة التى تجلس تحتها تيارًا شديدًا قاسى البرودة عنيفها .. كانت الرياح المتفرقة فى الميدان والشارع الواسع تتجمع فى هذا الشارع الضيق ؛ وتهب مصفرة عاوية كعواصف البحر الهوج ، وهى تهز نوافذ الدور وتنقر على زجاج النوافذ ، وكل ما عملته المرأة لتقى نفسها وغلامها من شر هذا الليل الأليل ، وهذه التيارات الهوائية العنيفة ، أنها استدارت وولت التيار ظهرها وانحنت على غلامها ولفت جسمه فى طرحتها السوداء البالية ، وكونت من جسمها وقاء لجسمه .. ولكن الرياح كانت شديدة وعاصفة ، فلم تستطع احتمالها .. أحست بالإبر الحادة تشك سلسلتها الفقرية ، وبسكين مسننة تعمل فى ظهرها ، فأخذت تنتفض وترتعد وترجف .. ليس من السهل أن تواجه هذه الليلة بثبات كما كانت تفعل كل ليلة ، فلقد كان بردها لا يحتمل وقرها لا يطاق ، كان البرد الشديد يسقط من السماء ، ويتصاعد من الأرض ويهب من كل جانب ، فأحست بجسمها المستقر على الأرض يثقل ويتخدر وبساقيها تفقدان الإحساس جملة .. لم تعد تعرف ما عملت فيهما الأرض الباردة وبقى جسمها الأعلى يتلقى البرودة فى صبر ، كان صدرها يضطرب ، وذراعاها تلوذان بصدرها .. وأذناها حمراوين فى لون الدم ، وأسنانها تقضقض ، وعيناها سابحتين فى الدموع ..
    واستيقظ الغلام المسكين على صوت الرياح ، ولكنه لم يكن يتكلم ولا يتحرك ولا يبين ، كان يلاقى البرد الشديد وهو لا يستطيع التعبير عن آلامه ، وموضع الداء من جسمه ، وهذا ما روع قلب الأم ولذع فؤادها .. فلما طوقته بذراعيها ، ورفعته عن حجرها .. ودفنته فى صدرها ، كان جسمه الصغير يرتعش بشدة ، وقد تجمعت قوته الحيوية كلها فى أطرافه ، كان كل ما بقى فيه من حياة وقوة ، يدفع ذراعه الناحل على صدره ، ويرعش ساقيه بشدة .. فأطبقت عليه ذراعيها وضمته إليها فى عنف ، وقربت وجهه المحتقن من وجهها ، ونظرت فى عينيه الذابلتين ، ثم غمرته بقبلاتها ، وأحست بشفتيه باردتين ميتتين ، ورفعت وجهها الباكى إلى السماء ، فرأت السحب السوداء القاتمة تخيم ، وتضرب برواقها ..
     كانت الليلة مع برودتها ضريرة النجم ، شديدة الظلمة ، تنذر بالسحاب الهاطل ..
وأخذ المطر بعد هزيع الليل الأول يسقط مدرارا ، ابتدأ بالرذاذ المتقطع ، ثم تدفق وانهمر وأخذ يضرب الأرض ، ويسيل الماء فى الشوارع . وقل ما يحدث مطر كهذا فى القطر كله ، وفى القاهرة على الخصوص ، ولكنه يحدث غالبا فى العام مرة ليشعر السكان بالشتاء الحق .. كان المطر مندفعا غزيرا ، وكانت المرأة منحنية على غلامها تتلقى ضربات المطر على ظهرها فى سكون .. كان الماء يجرى تحت رجليها وفخذيها الراقدين على الأرض ، وكان ثوبها الخفيف المبلل يلتصق بجسمها فيزيده رعشة ورجفة ، وكان همها منحصرا فى وقاء غلامها من شر المطر ، ولكن المطر كان غزيرًا قوياً فلم تستطع معه صبراً ..
كان المطر يسيل من صدرها إلى صدره ، ووجهها يبلل وجهه ، فأدركت الخطر العظيم .. وشعرت بالموت الزاحف .. وشخص بصرها إلى السماء مدة وأخذت تفكر ، فكرت فى تغيير المكان ، وذكرت بوابة فى شارع محمد على كثيرا ما أمضت تحتها بعض الليالى الماطرة ، فنهضت فى حذر وهى تطوق غلامها وتضمه إلى صدرها ، ثم مشت به فى الشارع على مهل ، وكان الشارع يلمع ، والمصابيح تبدو فى صقاله كالنجوم البراقة ، وكانت كلما أوغلت فى الطريق زاد المطر فى تهطاله ، فكانت تقف تحت شرفات الأبنية لتستريح قليلا ثم تواصل سيرها ، وكثيرا ما كانت تقف على أبواب المطاعم فتصافح أنفها رائحة الطعام الناضج ، والشواء المقدد ، وترى الناس جالسين حول الموائد يأكلون ويشربون فى جشع واستهتار ونهم ، وتحس بمعدتها تقرقر ، وتذكر غلامها الجائع المقرور الذى لم يأكل بعد وجبة الصباح شيئاً ..
ولما بلغت مطعم " الأمريكين " كان المطر قد انقطع فجأة وكان المطعم غاصا بالناس ، فالتصقت ببابه الزجاجى ، وأخذت تستعرض ما فيه ، وأحست بحركة طفلها على صدرها .. فتح الغلام النعسان عينيه فى ثقل وتعب فخطف بصره النور ، كان نور المطعم قويًا باهرًا ، حتى أطبق الغلام أجفانه هنية ، ثم فتح عينيه ثانية ، بعد جهد ، وأخذ يحدق فى المطعم بقوة ، جذبت بصره الحلوى من وراء الزجاج ، وكانت فى صحاف واسعة ، والآكلون عليها وقوف ، يدفعونها إلى حلوقهم بشراهة ونهم .. وكانت عيونهم لا تتحول عنها حتى وإن كانت أفواههم فائضة بالطعام ، وكان الكثير منهم يسقط الحلوى على الأرض ثم يدوسها بنعله ويتناول غيرها وهو يقهقه ..
رأى الغلام هذا كله .. ثم رفع يده المرتعشة وأشار بها إلى الحلوى وهو يحاول الكلام ، فرمقته أمه بطرفها .. وقلبها يتلذع بلذع الجمر ، وأنزلت ذراعه فى رفق ، وبارحت المكان على عجل .. ولما وصلت إلى أول شارع محمد على كان الطفل قد تشبث بعنقها ، واستراح على صدرها ونام .. أحست بجسمه البارد الضامر يلتصق بجسمها ، وكان الجو ، بعد المطر ، قد تغير وشاع فى جنباته الدفء ، وصحت السماء ، ولمعت النجوم ، ولكن الغلام لم يشعر بشيء من هذا كله ، فقد دفن وجهه فى نحر أمه ونام ، ومرت أنفاسه الهادئة على جسمها ، فكانت ترتجف قليلا ، ولكنها كانت تشعر بالرضى عن نفسها ، وتفئ إلى الحنان الأبوى المحض .. كانت رجلاه منثنيتين ومرتكزتين على خصرها ، فعاقها هذا عن جد السير فى الطريق ، فجاء خطوها وجلا محاذراً .. وسمعت الساعة الكبيرة المعلقة فى ميدان العتبة الخضراء تدق .. دقت الساعة الواحدة صباحا .. دقت دقة واحدة ولكن صوتها كان قويًا تمدد ورن صداه فى الحى كله ، لأن الليل كان قد سكن ، والرياح الهوج قد قرت ، والسماء الهاطلة قد كفت والطبيعة الثائرة قد هجعت تمامًا ..
كان كل شيء يسمع بوضوح ، وكان الشارع مغلق الحوانيت خاليًا من المارة ، وبقى فيه السكارى المعربدون ينسلون من الحانات القذرة التى تمتد على جانبى الطريق ، كانوا يمشون فى الطريق ثملين مترنحين يفوهون بألفاظ لا معنى لها ، ولكنها كانت تعبر عن آلامهم المنقمعة ، وعن نفوسهم المعذبة الشقية ، وعن أوجاعهم التى لا تحد ، وكان بعضهم يصطدم بجدار الأبنية ، ويهوى على الأرض ثم ينهض مترنحًا صاخبًا ، ويقطع الشارع فى خطوط حلزونية عجيبة ، ثم يغيب فى ظلمات الأزقة المعترضة ، فبعث منظرهم المروع فى نفس المرأة الرعب والجزع ، فكانت ترتعد وتضطرب وتخاف الوحشة المخيمة على الطريق ..
كانت البواكى القاتمة تبدو كالقبور المظلمة فاغرة أفواهها لتبتلع الناس أحياء .. وكان سيرها كله على الرصيف ، وهذا ما زادها وحشة ورعبا ، ودفعها إلى أن تميل إلى الحانات لتستأنس بأصوات السكارى الصاخبين فيها ، بأصوات الناس أيا كان لونهم ومشربهم ، فلقد كانت الوحدة لا تحتمل ولا تطاق وكان الغلام قد استغرق فى النوم ، واستلانت عضلاته وقرت أعصابه وهجع جسمه .. نسى الليل بوحشته ورهبته وظلامه ورعبه ، والدنيا وما فيها من آلام وأوجاع ..
***
فى صباح اليوم التالى وبعد الفجر بقليل ، سارت المرأة  فى ثوب الأمس ، وفى نفس الطريق الذى بدأته فى الليل ، بدأت من المكان الذى انتهت إليه لتواصل سيرها حتى نهاية الطريق .. كانت تتجه نحو القلعة كما كانت أمس ، ولكنها كانت تخطو خطى أبطأ وأمهل وأثقل من خطى الليل ، لم تكن تفكر ولا تدور ببصرها فى الحوانيت ، ولا تستأنس بالمارة .. فقد كانت عيناها ثابتى الحملاق مشدودتين إلى بقعة سوداء هناك ، بعيدة جدًا ..
كانت تنظر إلى الأمام فى خط مستقيم ، ولا ترى فى الوقت نفسه أبعد من خطاها .. كان إنسان العين قد حسر ، والدمع قد جف ، والأنفاس قد اعتلجت فى الصدر واحتبست ، والجسم قد سكن وتصلب .. وكان طفلها كموضعه من الأمس كان على صدرها ، وجسمه ملاصق لجسمها ، ولكنه ما كان اليوم يتنفس ، ولا كانت يداه تتعلق بشيء ، ولا رجلاه ترتكز على الخاصرة ولا جسمه الذاوى يرتعش ، ولا يده الناحلة تشير ، ولا قلبه الصغير ينبض ، كان كل شيء فيه قد جمد وسكن ورقد رقدة الأبد ، وبقى فقط وجهه الصغير الجميل يبتسم ..
وعندما بلغت ميدان باب الخلق ، أبصرت برجال ثلاثة ينحدرون إلى الطريق من شارع حسن الأكبر ، وكانوا يسرعون ويلهثون ، وعلى أكتافهم نعش خشبى مغطى بالحشائش ..!! وكانوا يسيرون فى صمت رهيب محزن ولم يكن فيهم واحد يذكر الله ، أو يصلى على النبى أو يترحم على الميت .. كانت تبدو على وجوههم جميعا آيات التعب وعناء المشى الطويل الشاق ، ولكن واحدًا منهم لم يكن حزينا ولا مكتئبا ولا يبدو عليه أنه يمت للميت الفقير بصلة ، كانت آية الضجر بادية على وجوههم واضحة فى ملامحهم ، وكلهم يحس بثقل النعش على كتفيه ، ويود لو يغافل الناس فيلقيه على الأرض ..! كانت جنازتهم رهيبة محزنة رغم استهتارهم المطلق بمن يحملون من الموتى ..! وكان الرجل الذى فى المؤخرة أصلبهم عودًا وأشدهم ساعدًا ، لأن عليه ثقل النعش كله ، ولهذا طوق خاصرته بنطاق أسمر دار على جلبابه الأزرق ، وشد من أزره .. وكان رغم برودة الشتاء وصلابة عضلاته ينضح عرقًا ، وكان أحد الرجلين الأماميين يتلفت يمنة ويسرة فى بلاهة ، وكأنه ينتظر رأى المارة فيه ..!! ثم يفتح فمه ويطبقه ، ويمد شفتيه حتى يجاوز بهما أرنبة أنفه ، ولعله كان يصفر بصوت خافت ..!
كان سير هؤلاء الثلاثة أسرع من سير المرأة ، فسبقوها وزادت المسافة بينها وبينهم ، على أنها كانت تسير فى طريقهم ، وتترسم مواضع أقدامهم ، ولكن شتان ما يحملون وما تحمل .. إنهم يحملون رجلا فقيرًا معدماً ، جاء إلى الدنيا وخرج من الدنيا ، فلم تشعر بفراقه ، كما أنها لم تشعر بوجوده ، ولكنها تحمل على صدرها كل ما تملك وتحب وترجو فى هذه الحياة الدنيا .. أمنية نفسها وقلبها ، ومنتهى سعادتها ومجتلى أحلامها ، لم تكن معه تحس بفقر ولا شقاء ولا جوع ، كان جو حياتها أبدًا ضاحكا مشرقا بوجوده ، كان حياتها وسعادتها وكل شيء عندها ، وها هى تحمل سعادتها وحياتها وتسير بها فى طريق الفناء وحدها .. كانت الطريق طويلة شاقة .. وستقطعها وحدها ، وهى تحمل على صدرها أعز شيء لديها ..

=========================
نشرت القصة فى مجلة العصور بالعدد 1 بتاريخ 19/11/1938 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
=========================





















الزوجة المصونة

       مع أن أصدقاء زكى أفندى وزملاءه فى الديوان ، ألفوا أن يشاهدوه مبتسما ، ولكنه لفت أنظارهم واسترعى انتباههم فى هذا الصباح على الخصوص ، فقد زادت الابتسامة حتى غطت وجهه الضامر ، وحتى طوى خالد أفندى .. وكان جاره .. صحيفة الصباح التى كان يطالعها وأخذ يحدق فيه مدة عله يستطيع أن يفهم هذا التغيير العظيم الذى طرأ على صاحبه ..! ولم يكن زكى أفندى يعنيه انتباه أصحابه إليه ، بل كان يفكر فى أمر استغرق تفكيره طول الليل .. وقلبه على فراشه .. وفتق سبل التأملات فى ذهنه ، فلما استقر رأيه على كتابة رسالة فى هذا الصباح الباكر ، قبل أن يخط حرفًا فى الديوان ، رجعت إليه نفسه وفاء إلى مرحه ، وزادت ابتسامته البلهاء حتى غدت عريضة تستغرق كل ملامح وجهه .. ومع أن القهوة كانت تجئ إليه فى الساعة الثامنة وكان يبقيها على حافة المكتب حتى الثامنة والربع على الأقل ، لأنه يتذوقها باردة ، ولكنه فى هذا الصباح شربها حارة جدًا حتى ألهبت شفتيه الغليظتين ، وأسالت العرق من أنفه الملتوى ، وهو أول ما يصيبه التعب من جوارح جسمه ..! ولم يكن إخراج الرسالة من المكتب بالجهد الذى يعبر عنه زكى أفندى بتقلص الشفة .. وتقبض الجبين .. ونضوب ملامح الوجه .. بل كان على العكس من ذلك داعيًا لازدياد سروره وسكونه إلى نفسه وعمله ، ولما كان القلم على القرطاس ، وانحنى الرأس على الورق بعد أن تهيأ الجسم كله لعملية الكتابة الشاقة ، عند زكى أفندى ..
       ابتدأ الرأس الصغير يفكر ، ويفكر تفكيراً ملحًا فيه براعة وحذق حتى سطر القلم أخيرًا ..
       " عزيزى أحمد
       " كنا قد اتفقنا على أن يكون تشريفك القاهرة أنت وزوجتى المصونة يوم الثلاثاء الماضى ، ولكن الثلاثاء مضى وانقضى بعده الأربعاء والخميس ولم تشرفا ، ومع اطمئنانى التام على عنايتك بزوجى وسهرك على راحتها ، وتوفير أسباب الهناء لها ، بكل الوسائل .. لكنى سمعت أن جو الاسكندرية تغير ، وأن بشائر الخريف حملت طلائع الرطوبة ، وأخاف أن تؤثر هذه الرطوبة على زوجتى العزيزة .."
       وهنا فكر زكى أفندى فى الرطوبة كثيرا ، وقدر ما تجره على زوجته من ويلات ، وأخذ يتصور زوجته وقد أصابها البرد وابتدأت تسعل .. ثم تطور الحال واشتدت العلة حتى اضطرت إلى الاستدفاء فى الفراش .. وتصور أيضًا صديقه أحمد وهو واقف بجانبها ، يقدم لها فناجيل الشاى ويجس نبضها ، ويقيس درجة حرارتها ، ثم يغطيها بالبطانية الصوفية بعد أن يلف بها رجليها وأسفل جسمها .. فاستاء لمرض زوجته المسكينة ، ولكنه سر لوفاء صديقه وقيامه على خدمتها وتمريضها على أحسن منوال ..!
       ثم رجع إلى رسالته وأضاف :
       " وأخاف عليها شر البرد ، وأنت تعلم أن جسمها الرقيق لا يتحمل مصائبه .. وتعرف أيضا أنها ما كانت تطيق البقاء فى البحر طويلا ، واحتمال حرارة الشمس وهى مستلقية على الرمال ، تعرف أنها ما كانت تصبر على الحرارة فهى تكرهها بقدر ما تبغض الرطوبة ..!"
       وهنا رجع يذكر سفره إلى الإسكندرية ومعه زوجته ونزولهما ضيفين على صديقه المخلص أحمد رفيق صباه فى المدرسة ، واستحمامهم الثلاثة فى البحر ، وتمضية معظم الصباح على الشط مستلقين على الرمل ، أو سابحين فى اللج ، أو لاعبين بالكرة .. وكثيرا ما كان أحمد يداعب زوجته بضربها بالكرة على خدها ، أو شد رجليها وهو تحت الماء .. وذكرها وهى تضحك كثيرا حتى يطفر الدم إلى وجنتيها ، ويسيل لعابها . ثم ذكر نفسه ، وقد اضطرته ظروف عمله إلى الرجوع إلى القاهرة ، وترك زوجته مع صديقه تستكمل راحتها ، وتسترد صحتها الذاهبة فى تعب العمل فى البيت ..
     وكان الاتفاق على أن تبقى بعد سفره أسبوعا واحداً ولكنها بقيت أسبوعين وثلاثة وأربعة .. وكان كلما طلب منه العودة لأنه بدونها لا يستطيع العيش كما يجب .. رجته فى رسالة رقيقة بدأتها بزوجى المحبوب – وسرته هذه التسمية وشيعت الابتسامة فى جوانب فمه ورقصت قلبه – فى أن يمهلها يومين أو ثلاثة على الأكثر .. وذكر أيضا ، وهو يبتسم ، أن آخر قرار حاسم قررته هو العودة يوم الثلاثاء الماضى ولكنها لم تشرف أيضا ..! وهذا ما دعاه إلى أن يضيف بحرارة :
       " أنت تعلم يا صديقى الوفى حبى الشديد لزوجى وقلقى على صحتها حتى وإن كنت على يقين من أنها نازلة عندك أحسن منزل .. وتعلم أن الذى ركن واستراح إلى الحياة الزوجية الهادئة القانعة السعيدة لا يمكنه أن يستمر عزبا وحيدًا مستوحشًا شهراً بطوله ، ومع شكرى على راحتها وتوفير أسباب السعادة لها ، ولكنى أرى يا صديقى أنها أجهدتك وأتعبتك أكثر من اللازم ، وأنه جاء دورك الآن لتستريح بعد كل هذا الجهد الشاق الذى بذلته معها ، فمن رياضة فى الخلوات إلى سباحة فى البحر إلى أشياء أخرى كثيرة ممتعة .. وما أراها بعد هذا كله إلا زادت فى الوزن ..! "
       وهنا تذكر زكى أفندى زوجته ، وهى تلح عليه دائما فى وزن نفسها كلما مشيا فى شارع عماد الدين ، وبصرت بالموازين القائمة فى الطرقات .. ومع أن الفارق فى الوزن بين اليوم والثانى كان ضئيلا وضئيلا جدًا ، ولكنها كانت لا تفتأ تدفع القروش بسخاء بحجة أنها اليوم أحسن .. وأنها تود أن تطمئن ..
       وختم رسالته بقوله :
       " وأخيرًا أرجوك يا صديقى العزيز رجاء حارًا أن تقنع زوجتى المصونة بالعودة ، وتعمل على سفرها يوم الخميس فى أول قطار .. ويسرنى أن ترافقها لتمضى بيننا أياما هانئة .."
       " قبلاتى الحارة إلى زوجتى وتحياتى القلبية إليك .."
       وغلف زكى أفندى الرسالة ، وهو يفكر فى خلال ذلك ، فى زوجته المصونة ، وهى جالسة فى القطار ، وبجانبها أحمد أفندى وقد اضطرهما الغبار الشديد إلى إغلاق النافذة ، وقطع الطريق الطويل بالحديث الشيق ، وتبادل النكات الطلية ، بل وفعل ما هو أكثر من ذلك ..
==========================
نشرت القصة فى مجلة غريب عدد يناير 1936 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
==========================


                                  الحب الأول             

كانت الساعة العاشرة من إحدى أمسيات يونيو ، وكنت متمددا على سريرى ، أفكر فى مصير المباراة التى سنقيمها غداً بين فتيان حينا وحى الحلمية .. عندما سمعت والدتى تقول لأبى على العشاء :
ـ وصلتنى عصر اليوم رسالة من إحسان وقد بعثت السمن والجبن بقطار الركاب ، وهى بخير وعافية وتدعو حلمى لتمضية أيام فى القرية .. فما رأيك ..؟
فأجاب أبى وهو يمضغ طعامه :
ـ لا مانع عندى .. والأمر إليك ..
فقالت أمى :
ـ أنا لا أستطيع أن أرد لها طلباً .. فليسافر إذن ..
وكان والدى يفوض أمرى فى مثل هذه الشئون إليها ، وهى التى كانت تحبسنى دائماً معها مدة عطلة الدراسة الصيفية الطويلة ، وترفض كل الدعوات التى تجئ من أقربائى فى الريف لأنها تخاف علىّ من الغرق ، والعطلة عادة زمن الفيضان ، أو تخشى شر حشرات القرى ، وهى تبارح أوكارها فى الصيف ، على أن الأمر اختلف فى نظرها مع إحسان الفتاة اليتيمة المسكينة كما كانت تنعتها دائما ..! فلقد كانت من أحب قريبات أمى وأعزهن عندها خصوصاً بعد أن ماتت جدة إحسان وخلفتها وحيدة فى منزل أبيها الكبير ..!
وكنت فى ذلك الحين فى السادسة عشرة من عمرى ، وكنا نسكن فى شارع القاصد بعابدين ، وقد مضى علىّ أكثر من ست سنوات لم أر فى خلالها القرية ، ولم أنتقل من القاهرة إلا للتصييف مع الأسرة فى المصايف ، حتى أصبحت متشوقا جداً لرؤيتها متلهفا على تمضية جزء من العطلة فى الريف ، بعد أن ضقت ذرعاً بالقاهرة وضجرت بما فيها .. فالأمر لا يعدو تمضية النهار فى لعب الكرة مع الرفاق ، ثم حبس المرء فى المنزل من الساعة السابعة مساء .. فلما سمعت موافقة والدى على سفرى طار قلبى فرحاً ، ورحت أتصور القرية عندما كنت أزورها مع أبى مرة فى العام قبل أن يفتر عن زيارتها بالتدريج ، ثم ينقطع دفعة واحدة ، وكان ذلك فى الوقت الذى بدأ فيه الموت يحصد أفراد أسرتنا حصدًا .. فكره والدى القرية وتحول عنها إلى الإسكندرية ..
***
ولم يغمض لى جفن طول الليل من شدة الفرح ، ومضيت الليل مكونا فى رأسى صوراً ذهنية رائعة عما سأشاهده فى الريف الجميل من مناظر ورؤى ومتع ولذائذ ، على أن السرور لم يكن خالصًا ، فقد ساورتنى الهواجس ، وانتابنى بعض القلق ، بعد أن دار بخلدى أن والدتى قد تغير رأيها فى الصباح ، وعلى الأخص بعد أن فوض لها والدى الأمر والسيدات متقلبات متلونات .. فربما عرضت الأمر على بعض صاحباتها فتبسط لها هذه مشقة السفر فى براعة فترفض .. وشق علىّ هذا حتى رحت أتضرع إلى الله طيلة الليل ألا يزورنا من الجنس اللطيف أحد ، وأن تشغل كل واحدة بما يصرفها عن الزيارة حتى ولو بالمرض المفاجئ ..! فلقد كان شوقى إلى تمضية أيام فى القرية لا يصور ..
***
       وأخذت أمى فى الصباح تعد العدة لسفرى ، وفى الساعة العاشرة من مساء اليوم نفسه تحرك بى القطار إلى الصعيد .. ووصلت مع مطلع الشمس فألفيت فى انتظارى على المحطة خادمنا سعيد ..
       واستويت كالفارس على جواد أدهم مطهم ، والخادم خلفى على حمار أشهب ضخم .. وبلغنا القرية عند الضحى ..
       وترجلت .. ووقف الخادم على الباب الكبير يقرعه ..
       وفتحت خادمة سوداء نصف ، فما وقع بصرها علىّ حتى افترت نواجذها ولمعت عيناها ، وولت عنى تصيح بأعلى صوتها :
       ـ سيدى حلمى .. ستى .. سيدى حلمى .. ستى .. ستى ..
       ودوى الصوت فى جنبات الفناء الرحب ، وسمعت بعده خطوات سريعة غير منتظمة ، ثم صوتًا ناعمًا يقول فى غمرة سرور ونشوة مرح :
       ـ صحيح ..؟!
       ثم قرب وقع الخطوات وظهر أثرها على السلم وأنا واقف فى الفناء محير أذوب خجلا ، والخادم السوداء الملعونة لم تفكر مطلقًا إلا فى مرحها ، فلم تقدم لى كرسياً ولم تحيينى بكلمة ، وإنما وقفت أمامى ضاحكة وأسنانها البيضاء تومض بين شفتين غليظتين فى سواد الفحم ..
       ولاحت على الدرج فتاة هيفاء رائعة الحسن بديعة التكوين ، فلما بصرت بى توقفت عن سيرها برهة ، ثم استأنفت هبوط الدرج على مهل وفى خجل ظاهر .. فلقد كبرت فى عينيها من أول نظرة فما كانت تتصورنى يافعاً فى هذا الجسم .. ولا فى هذا الطول ، والحق أن جسمى كان يكبر سنى بمراحل ..
       وتصافحنا ، ومالت بى إلى غرفة قريبة على البستان ، وأخذت تسألنى عن أبى وأمى وإخوتى ودراستى ، والقاهرة وضواحيها وملاعبها ومسارحها ، وتعجب كيف أنى كبرت جدًا وتغيرت حتى غدوت رجلا ..
       ثم قالت :
       ـ أظنك تعباً معنى من السفر الطويل وتحتاج للراحة ..
       والحق أننى كنت كذلك ، فصعدنا إلى الطابق العلوى ومهدت لى السرير لأنام ، فنمت حتى العصر ..
       ولما قمت من فراشى أعدت المائدة للغداء فتغدينا ، واسترحنا بعد الغداء قليلا ، ثم قامت معى ترينى المنزل ، بعد أن تغير وأضيفت إليه حجرات ، وامتد حوله بستان وأطلت منه على الماء شرفات ، فطفت به حتى بلغنا السطح .. وكان واسعًا يحفه سور عال ، وفى ناحيته الشمالية المطلة على النيل غرفة أنيقة صغيرة كثيرة النوافذ .. لها شرفة مغطاة بالخشب لتحجب الواقف فيها عن أنظار المارة على الجسر ، وأثاثها فخم ولكنه حائل اللون باهت عملت فيه السنون ، وبها فوق هذا سرير وكنبة وصوان للملابس نصف بللوره مهشم ..!
       ونظرت إلى إحسان وقالت وعلى شفتيها ابتسامة فاتنة :
       ـ ستنام هنا ..
       فقلت :
       ـ ما أمتعها غرفة ..!
       فأردفت ..
       ـ وحدك ..!
       فوجمت والمنزل مع رحابة جنباته واتساع أرجائه ليس فيه إلا جاريتان تقومان على خدمتها ، أما الخدم من الرجال فهم ، وإن كانوا كثيرين فى الاسطبلات والحقول فلا يسمح لأحد منهم بأن يلج باب المنزل مطلقًا ، فلقد كان الشيخ عبد المجيد والد إحسان يحرم على الخدم الاختلاط بالنساء ورؤيتهن كعادة الأسر الكبيرة فى الصعيد ؛ فإذا عنت للخادم حاجة ، وقف تحت فناء البيت وهتف بمبروكة أو فطوم ، ولهذا كان المنزل موحشاً يشعر الغريب بالوجل على أنها لما أضافت :
       ـ أتخاف ..؟
       قلت :
       ـ طبعا لا ..
       وجلسنا فى الغرفة نتحدث حتى ولى النهار ، وزحف الليل وهى مقبلة علىّ بوجهها ، وأنا مأخوذ بحلاوة حديثها حتى حان موعد العشاء ، فجلسنا نتعشى ، وهى قبالتى ، تقطع لى شرائح اللحم ، وتقدم الخبز ، وتملأ أكواب الماء ..! وتبالغ فى العناية بى وهى مشرقة جذلة .. وإذا رفعت بصرى عن الصحن إلى وجهها ، تمهلت فى مضغها ونظرت إلىّ باسمة وقالت :
       ـ كل .. إنت مكسوف ..!
       ـ أنا ..! أبدا ..
       ولما فرغنا من العشاء أقبل علينا أقربائي من فتيان وفتيات وكانت منازلهم ملاصقة لمنزلها ، وجلسنا نسمر إلى أن قرب الليل من منتصفه .. على أنى شعرت أثناء وجودهم ببعض الضيق ..
       ثم انصرفوا إلى منازلهم ..
    وقالت إحسان :
       ـ أنت تعبت هيا ننام ..
       وسوت لى سريرى .. ونامت بالقرب منى على الكنبة .. وتبادلنا النظرات والبسمات ، حتى أخذنا النوم معاً ..
       ونهضت فى الصباح الباكر تهئ طعام الإفطار ، فقد آلت إلا أن تعمل كل شيء بيديها ، وأنا أرقبها وهى تعمل البقلاوة ، وتصنع الفطيرة بالزبدة .. وتقلى العجة ودخان الموقد يحف بجبينها ويمر بشعرها فتلمع عيناها وتدمع ، ولكنها مع هذا كله كانت جذلة طروب ..
       ـ ابعد عن الدخان .. مالك وهذا ..
       هذا ما كانت تقوله لى ، وأنا جالس جنبها القرفصاء ، وقد بدا لى أن أشترك معها فى دحى الرقاق ، وكانت مبروكة فى ناحية منا تقلى العجة فى موقد من المواقد .. وراحت تجئ بالماء وتركت المقلاة على الموقد تغلى وتنش ، فلحقت بها النار فانقلبت المقلاة كلها ناراً صفراء ترمى باللهب القوى .. فتحولنا إليها ووقفنا واجمين ..
       وجاءت إحسان .. وقد تغير لونها وعلت أنفاسها .. بسيخ طويل من الحديد وأرسلته إلى المقلاة ، ولكنها انزلقت عن حاجز الموقد الجانبى ، وانقلبت فى قاعه فطايرت من رشاش السمن الملتهب ما وصل إلى رجلى ، فأحسست بلذع الجمر ، ولكنى تماسكت وتجلدت فى شجاعة ..!!
       ـ رجلك ..
       ونظرت إلىّ ملتاعة ..
       ووقفت مبروكة تصطك أسنانها ، وتجحظ عيناها ، وقد بدا لى أنها خرجت عن رشدها تماماً ..
       وأمسكت مع إحسان بطرف السيخ ، ويدى على يدها لنخرج المقلاة من الموقد ، على أن إحسان جفلت وخافت من شر النار ، وقالت بصوت يرتعش :
       ـ إذهب بعيدًا ..
       ولكنى لم أذهب ..
       ـ إذهب بعيدًا ..
       ولا يزال صوتها راجفًا ، ولازالت تحذر وتنظر إلىّ نظرة عطف ، بعد أن عقد لسانها ، وعجزت عن الكلام ، وسحبنا المقلاة سويًا إلى خارج الموقد ، وبقيت بقايا السمن تنش وتئز بصوت مفزع ..
       ولمعت ابتسامة باهتة على الشفة المختلجة ، وتألق بريق خاطف فى العين الدامعة .. ووضعت يدها على كتفى ورافقتنى إلى الطابق العلوى ..
       ـ رجلك ..؟
       ـ ليس بها شيء ..
       فكشفت عن ساقى ، وهى خجلى ، وكان الحرق فى مقدم الساق ظهر فى خط أحمر يلتهب .. فوضعت يدها عليه ، وهى تتلوى ، ورفعت وجهها إلىّ ، وقد اخضلت عيناها بالدمع .. لقد كان عطفها علىّ غير عطف الأم وعطف الأب ، عطفًا جديدًا أشعرنى بسعادة لذيذة وأشرف بى على دنيا حالمة ..
       وربطت الجرح بيدها البضة الناعمة ، وأنا أحس بنشوة غريبة هزت أعماق نفسى ، حتى لتمنيت معها لو كان جسمى كله جراحا ..
       وبقيت فى الفراش يومين كاملين كانت فى خلالهما نعم الطبيب ..
       ولما قويت على السير خرجت مع بنى عمها نطوف بالقرية ، فزرنا السوق ، وتمشينا على النيل ، وتحدثنا مع بعض الملاحين ، ورأينا مغرب الشمس فى النيل ، وهو أبدع مناظر الريف على الإطلاق ..
       وقضيت معها بقية اليوم نتحدث ونلعب ألعابًا مسلية ممتعة ، حتى حان وقت النوم ، فقمت متثاقلاً ، وألقيت بنفسى على السرير ، ووقفت هى بجوارى تبتسم وفى عينيها بريق أخاذ .. وبعد أن رمت على جسمى ملاءة قطنية .. خففت ضوء المصباح ، ومضت إلى الأريكة لتنام ..
       نمت نومًا هادئًا ، واستيقظت قرب الفجر ففتحت عينى ، فألفيت الظلام مخيماً لأن الهواء أطفأ المصباح ، ورحت أتقلب ، وأدفع الغطاء القطنى برجلى مرة ، وأرده علىّ مرة أخرى وأحلم حلم اليقظة وأفكر .. أفكر فى إحسان .. فلقد استيقظت ، وهى تحتل بؤرة شعورى ، وأخذت استرجع صورة أيامى الماضية .. وداع والدى ، وسفرى وركوبى الجواد إلى القرية ونزولى عند إحسان ، وحديثها الطلى وروحها الجذاب ، وحادث النار ولعبى مع الرفاق ، حتى بدت خيوط النور تتسرب إلى الغرفة من النافذة المفتوحة المطلة على الماء ، وهفا النسيم العليل وأرسلت مقدمة الفجر ألسنة الضوء الحمراء ..
       وقمت برفق مخافة أن يحدث السرير حركة فتصحو ، فما كنت أود أن أقطع عليها سلسلة أحلامها اللذيذة ، ونزلت من فوق السرير ، ومشيت نحوها ولكن الظلام كان مخيفًا فلم أستطع أن أتبين من وجهها الصبوح شيئا ، وخفت أن أرتطم بها لو قربت منها ، فملت إلى النافذة ، وكان الماء يلمع فى ظلام الليل ، وقد بدا الأفق يذوب سواده وتشتد حمرته ، وأخذت النجوم تأفل متعاقبة ، وبقيت منها نجوم قريبة تستقبل الفجر وتتطلع إلى الصباح .. وزادت حمرة الأفق ، وخفت شدة الظلام ، ولمعت صفحة الماء ، وأخذ الماء يترنح ويرسل موجه الخفيف إلى الشاطئ ، وبدت فى السماء سحب خفيفة أخذت تتجمع عند الأفق الوردى ، وطارد الفجر الظلام ، وأرسل وراءه سهامه البيضاء حتى ارفض جبين الأفق كله عن لون اللجين .. وهب النسيم ، وتحرك الماء وصاحت الديكة ، وحلقت عصائب الطير ، وانطلق المؤذن فى القرية ، وبدا القرويون على الجسر وزاد الضوء فى الغرفة ووضح جبين إحسان ..
       وحولت بصرى إليها وهى نائمة نوم الملائكة تحلم حلم الأطفال ، وقد غطت جسمها بلحاف أزرق خفيف بان منه وجهها وعليه خصل شعرها الغدافى الناعم ، وكانت أنفاسها هادئة ، وعيناها مقفلة وأجفانها مسبلة ..
       ولم أر الشمس فى طلوعها وهى أبدع شيء فى القرية ، فقد اشتغلت عنها بإحسان .. وبصرت بالشعاع ينفذ من النافذة ويستقر على المرآة الصغيرة التى عكسته على فراشها ، وهى لا تزال مستغرقة فى النوم تتنفس تنفساً هادئًا ، ووجهها باسم قليلاً .. ربما كانت تحلم أحلامًا لذيذة وتسرح بعقلها الباطن فى دنيا الأحلام ..
       وفتحت عينيها بثقل ، وكان أول شيء لحظته سريرى ، فلما لم ترنى عليه تغيرت ملامحها قليلاً .. ودارت ببصرها بسرعة فوجدتنى واقفًا أرقبها باسمًا ، فقالت وهى تنهض وعلى شفتيها أجمل ابتسامة :
       ـ انت صحيت ..
       نادت على مبروكة فلم تجب .. فخرجت من الغرفة وأنا وراءها فألفينا السوداء نائمة فى جدار الغرفة على لحاف قديم .. فوقفت عند رأسها وهتفت بها ، وهى تغط فى نومها ، فلم تحس .. فركلتها برجلها بعنف وهى ضاحكة .. فقامت الخادم مذعورة ..
       ـ يوه .. يوه .. ستى ..!
***
       ورأينا فى أصيل يوم جميل أن نتنزه ، عندما يقبل المساء ، فى زورق وما خيم الظلام حتى كان الزورق راسيًا عند الباب الخلفى للحديقة .. وخرجنا به أنا وهى وابن عمها صلاح ، وهو فى مثل سنى .. وخادمتها مبروكة وأجلسناها مع الخادم فى الخلف ، وأخذت أجدف أنا وصلاح .. ولقد كنت ، كما تصورت ، بارعًا فى التجديف للغاية ، وبدأنا نبعد عن القرية ، ونوغل فى اللج ونتعمق فى جوف الظلام فلقد كان القمر لم يطلع بعد ، ورأينا أن نمتع الطرف بطلوعه ونحن فى قلب الماء لنحظى بأبهى منظر .. وأعملنا الأيدى فى المجاديف حتى غابت القرية عن أبصارنا وقد لفها الليل فى جلبابه ، ولم يبد منها على مرمى البصر غير نور خافت ينبعث من بعض المصابيح القائمة عند بيت العمدة وما يجاوره من أبنية .. والواقع أنى شغلت بالتجديف عن إحسان لأن السباق بينى وبين ابن عمها كان عنيفاً جداً .. ولقد كان أصلب عوداً وأقوى ساعداً ، ولكنى كنت أبرع فناً وأحسن توفيقًا .. أجدف عن صنعة ، وهو يجدف عن فطرة ، ويتكل على ساعده ، وأتكل على مرانى .. فكانت الغلبة لى دائماً ، فأنا الذى أحول الزورق إلى ناحيته ، وكم صفقت إحسان وهى جزلة طروب ..
       ثم تركنا المجاديف ، لما طلع القمر .. وخلينا الزورق يجرى كيف شاء ، وأخذنا نتجاذب أطراف الأحاديث بيننا ، وعيناى تلتقى بعينيها ، فأرى بريق السرور فى العينين النجلاوين ، وبسمة الرضا على الشفة القرمزية .. كم كنت سعيدًا فى ذلك الوقت كم شعرت فى أعماق نفسى بالسرور المحض ، وشد ما تمنيت لو خلا الزورق من خادمتها وابن عمها وبقـيت معها وحيدًا ، كنت أحس عند ذلك بإحساس غير الأول وبسعادة غير التى أحسست بها ..
       فى غمرة الطبيعة الضاحكة ، وبين أحضان الريف الهادئ ، وفى الجو الطلق المشبع بالحرية ، وتحت سماء الصيف الزرقاء ، تتفتح النفس ويتحرك القلب ..
       هل أحست وهى التى تكبرنى بأعوام ثلاثة ونحن نتلاقى بالأعين ونتضارب بالأيدى ، عن عمد ، بأنى أحببتها ، هل أحست ، ونحن نصعد درج البيت لننام ، بأنى كنت أود أن أقف معها فى جوف الظلام لأضمها إلى صدرى ، وأغمر شفتيها بلثماتى ..
       ووقفت جنب سريرى قبل النوم مدة وهى باسمة ، ولما تلامست يدانا لتحية المساء ضغطت على يدها بعنف .. هل فهمت ..؟ أطرقت وعلت وجهها حمرة الخجل ، وانسحبت فى هدوء إلى فراشها ..
       ومضى أسبوعان ونحن أصدقاء .. وكانت أشد الأوقات وطأة على نفسى هى الساعات التى أتغيبها عنها ملبيا دعوات الآخرين من أقربائنا وما كنت أود على شغفى بالسباحة ، وصيد السمك مع غلمان القرية ، أو ركوب الجياد على الجسر ، أو لعب الكرة فى السوق .. ما كنت أود على فرط ولعى بكل هذه الأشياء أن أبتعد عنها .. لقد كان يعترينى وأنا أصغى لأحاديثها ، وأستمع لقصصها إحساس غريب لذيذ ، يهز أعماقى ، وأنسى معه كل شيء حتى نشوة المرح التى تعترى راكب الجواد ، أو هزة الفرح التى تلازم صائد السمك ، أو فترة الحماسة التى تنتاب لاعب الكرة ..
       وحمل إلينا البريد ذات صباح رسالة من والدى يطلب فيها عودتى إلى القاهرة .. وقرأت الخطاب والهم يعصر قلبى .. سعادة أيام تنقضى فى لحظة .. ولم أستطع أن أتبين الإحساس الذى اعتراها بالدقة ، وكل ما رأيته أن حركاتها تغيرت ، وحديثها فتر ، وابتسامتها غاضت ..
       وأخذوا فى اليوم الثانى يعدون العدة لعودتى ، ففتحت إحسان حقائبى وأخذت تضع فيها ملابسى ، وأنا قبالتها أتفطر لوعة .. والخدم فى المطبخ يعدون هدية الريف لسكان المدينة ..
       وبعد ساعة رأيت ، وأنا واقف عند النافذة ، جوادًا يسحب من الاصطبل ، ويتبختر نحو البيت فى مرح ، إنه ما كان يعلم أنه سيحمل سعادتى معه إلى الأبد ، وعلقت البصر بالجواد حتى وقف أمام الباب يضرب برجليه الأرض ، فاغرورقت عيناى بالدمع ، وارتددت عن النافذة فألفيتها قبالتى ترقبنى ساهمة شاردة ، فوقفت أمامها وقلبى يمزق ضلوعى ، ودمعى يتفجر من عينى ، وبقينا هكذا مدة طويلة وأنا ذاهب ملتاع القلب حتى أحسست بيدها على يدى ، وضغطت عليها وجذبتنى إلى الأريكة ، وأخذت تلاطفنى تفرك يدى مرة ، وتشد شعرى أخرى حتى ضحكت ..
       وصرفت الخادم بالجواد حتى صباح الغد ..
       ومضيت ليلة لا أنساها ما عشت ..
       وتزوجت إحسان بعد ذلك بعامين .. وانقطعت بعدها عن زيارة الريف ..
=========================
نشرت القصة فى مجلة العروسة بالعدد 654 بتاريخ 2/2/1938 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
========================== 

















من أيام الصبا

       كنا خمسة .. خمسة من الشبان المتمردين على الجماعة والخارجين على حدود الناس .. والذاهبين مع مرح الشباب ولهوه .. كنا قد انقطعنا عن المدرسة .. وتخلفنا عن الرفاق .. وسرنا مع نزق الشباب وطيشه .. فطردنا من الأهل وحرمنا من الصحب .. وتقطعت بنا الأسباب .. وذهبنا على وجوهنا نبغى العيش من التصعلك والتشرد وركوب متن الأهواء .. ثم ارتددنا على أعقابنا وضمتنا القرية الحبيبة بعد طول شتات .. فانطلقنا نعمل فى الحقول ونشرف على حراسة المزارع ..
       وكانت الأيام المشردة قد مسحت ما على أجسامنا من غضارة المدينة ولينها ، فالتفت سواعدنا واشتد عودنا ، وأصبحنا أقوى ساعدا وأعظم قوة من هؤلاء الريفيين الذين يقضون حياتهم بين أحضان الطبيعة ، ناعمين بالحياة الحرة ، فى الهواء الطلق والجو المشمس ..
       كنا جالسين فى حقل من حقول المزرعة وحولنا الأجران ، والليل ضارب بجرانه والصمت رهيب .. وكنا قد تأخرنا عن زمن الحصاد ، فحرمنا بذلك من أمتع " أيام الصبا " ولهوه .. كنا نقف وراء صفوف هذه السواعد القوية وهى تطوى سنابل القمح طيا ، وخلفها الفتيان الأشداء يكومون الأحمال ، وينيخون الإبل ، ونساء الفلاحين يلتقطن السنبل الساقط ، ويجمعن قوت الأيام السود .. وكنا نزجر العجائز الدميمات منهن ، وندع الصبايا الجميلات يتوغلن حتى الحقول .. كانت أسواطنا تخطئ دائما .. ومع ذلك ، فما قطعنا القلوب حسرات ، ولا ندمنا على ما فرط منا من إثم .. كنا ذاهبين مع الصبا بقلوب نزقة ، لا نحسب لأوضاع الناس حسابا .. نتخذ من عطلة الصيف ، وأيام الحصاد مرتعًا خصبًا لشبابنا الجامح وعواطفنا الجائشة .. ونظل النهار بطوله واقفين فى قلب المزرعة تحت لفح الشمس ، لا نكل ولا نمل ، لأننا نرى فى كل ساعة وجهًا فاتنًا صبوحًا من تلك الوجوه القروية النضرة التى تستغرق الطرف ، وإن كانت تعيش فى ظلام الفقر وبؤسه ..
       فإذا أقبل العشى انطلقنا وراء الإبل المحملة بالقمح ، وخلفها الجمالون يحدونها بأصواتهم الشجية .. حتى نبلغ الأجران ، فتناخ الإبل وتفك عنها أحمالها ، وهى تهدر هديرًا قويًا كان يبعث فينا النشاط والحماسة والقوة ..
       فإذا تمت الأجران وعلت كالأطواد ، اتخذنا من ظلالها وأوكارها أعشاشًا لغرامنا كان كل شيء فى تلك الساعات النزقة إغتصابًا وقسوة .. كانت لنا الساعة التى نحن فيها لم نكن نفكر فى المستقبل ، ولا كانت عيوننا ترتد إلى الماضى .. كنا نطوى الشهور فى المزارع بين الرياض والغياض .. ولا نرى منازلنا إلا نادرا .. كان من الصعب علينا أن نحبس قوتنا الدافقة ، وحيويتنا العظيمة بين الجدران .. كنا كالأعشاب البرية وهى تنمو تحت أشعة الشمس على أتم غراس وأنضجه ، نفتح سواعدنا عندما يشعشع النور ، ونستقبل بصدورنا ندى الفجر ، ونود من قوة عضلاتنا لو نقاتل ونرضى تلك الغريزة الفطرية فى الإنسان ..
       كنا مسلحين دائمًا وحول أجسامنا أنطقة البارود ، فإذا أقبل الليل وضل إنسان العين فى سواده ، صوبنا بنادقنا فى كبد الفضاء ، وأطلقنا النار ، وأرسلنا عيوننا وراء سهام البارود النارية وهى تخترق حجب الظلام الكثيف ، وملأنا خياشيمنا برائحة البارود ..
       كانت تلك الليالى من أمتع ليالى حياتنا وكانت ذكراها تبعث فينا الحماسة والنخوة .. كنا نذكرها وكأننا ننظر إلى حلم جميل ولى ..
       رحنا نسترجع تلك الذكريات الحلوة ، ونحن جالسون فى هذه الليلة الصيفية المظلمة على جرن عال يشرف على أجران المزرعة ، والظلام من حولنا شديد ، والمكان موحش رهيب ..
       وكان جرن كبير من الأجران قد ذرى وأعد قمحه للمخازن وكان علينا أن نسهر عليه حتى تنطوى فحمة الليل ، فأخذنا نتبادل الأحاديث الممتعة ونطرد النوم بكل الوسائل .. أوقدنا النار ، وشربنا الشاى ، ولمعنا البنادق ، وملأنا خزاناتها بالرصاص ..
       وكان ينهض واحد منا كل ساعة ومعه كلبان من كلاب الحراسة فيدور حول المزرعة ويتفقد مرابط الخيل وحظائر الماشية ..
       ونهض أحدنا ، وكنا مستغرقين فى الحديث فلم نشعر بغيابه .. وسمعنا على غرة نباح كلاب شديد قادم من شرق المزرعة .. ثم ومض البارود ، وأزَّ الرصاص ، وملأ الدخان عنان الجو ، فنهضنا مسرعين واتجهنا إلى الناحية التى سمعنا منها صوت الطلقات .. ثم خفنا أن تكون هذه حيلة بارعة لتبعدنا عن المزرعة ، فعدنا إلى مكاننا وأعيننا لا تتحول عن سهام النيران الحامية ..
       وانقطع صوت النار وبقى صوت الكلاب ، وأخذ نباحها يقترب منا .. ثم برز شبح فى الظلام ، فصوبنا بنادقنا وهتفنا بالقادم .. فرد علينا إسماعيل ، أحد رفاقنا ، بصوت أجش .. واقترب منا وهو يلهث ووجهه يتصبب عرقًا ، وغدارته تفوح منها رائحة البارود ..
       فصحنا فى صوت واحد :
       ـ هل أصبت ..؟
       ـ لا ولله الحمد .. وإنما كدت أن أقتل .. وكل ذلك بسبب هذين الملعونين ..
       واستطرد وهو يشير إلى واحد من الكلبين :
       ـ لن ترافقنى مرة أخرى يا مسعود ..!
فسأله رفيق له :
ـ هل مررت على القرة ..؟
فأجاب فى إيجاز متعمد :
ـ أجل ..
ـ وهل كان من الضرورى ذلك فى هذه الساعة من الليل ..؟
ـ أجل .. كنت فى حاجة إلى تبغ ..
ـ أكنت فى حاجة إلى تبغ أم كنت فى حاجة إلى شيء آخر ..؟
فصمت ولم يجب على أن وجهه كان ناطقًا بفعلته ..
وسأله أحدنا مازحًا :
ـ أكـنت تعس حول المزرعة أم كنت تسطو على بيوت الناس ..؟ هكذا والله هى الحراسة ..
       وضحكنا جميعًا ، وعدنا إلى مكاننا الأول من الحقل .. وجلس إسماعيل ناحية ، وأخذ يمسح بندقيته ، وعلى وجهه سمات من ارتد خائبًا بعد جهاد طويل ..
       وسأله أحدنا :
       ـ ولكن لماذا أطلقت النار ..؟
       ـ أنا لم أبدأ بإطلاق النار ، وإنما هم الذين بدأوا ..
       ـ هم ..! من هم ..؟ من الذى أطلق عليك النار ..؟
       ـ بصر بى بعض الفلاحين عندما نبح هذا الكلب الملعون وظنونى لصًا .. وكنت على قيد أذرع من خبائها .. فأطلقوا النار فى الهواء .. فغبت فى جوف الظلام وأطلقت طلقتين معًا .. وجريت .. وحلت لى هذه المطاردة ، وتصورت نفسى لصًا يبغى السرقة لا مخلوقًا دنيئًا يسطو على خباء امرأة فى غلس الليل وتحت ستاره ..! وبادلت الفلاحين الطلقات السريعة ، فظنونى عصابة كاملة من الأشقياء ثم راوغت تحت جناح الليل ووليت هاربًا ..
       ـ ما كان أحلاها قتلة ..!
       ـ أجل والله ما كان أحلاها قتلة .. وما كان أطيب وقع النعى على نفسها ..!
       وقال عثمان وهو يبتسم ابتسامة عريضة ، وكان أشد رفاقنا بطشا وأعظمهم قوة :
       ـ أى مشقة يلقاها الرجل دائمًا وهو فى طريقه إلى الرذيلة ومع ذلك لا يزدجر ..!
       وصمت برهة ليشعل لفافة تبغ .. والابتسامة لا تبارح وجهه القوى التعابير ، الدقيق الملامح .. ثم أجاب على سؤاله بنفسه :
       ـ لماذا ..؟ أجل لماذا ..؟ لأن ركوب الصعب من الأمور دائما شائق ، أم لأن الاستيلاء على ما فى حوزة الناس فيه إمتاع ولذة ..؟ ماذا كان يحدث يا صاح لو رآك زوجها .. أى موقف حرج .. دفعت نفسك فيه .. وأى مصيدة ..؟ أنا أعرف أن المرأة هى علة الشقاء الإنسانى .. كما أنها قد تكون علة هنـائه أيضاً .. ذكرتنى أيها الأخ الشهم بحادث كدت أن أنساه فما تحدثت به لإنسان ، بيـد أنى أشعر برغبة قوية تدفعـنى إلى أن أقصه عليكم ..
       فسررنا وتوقعنا فى حديث صاحبنا مغامرة ممتعة نتسلى بها حتى ابنلاج الصبح ..
       ونظرنا إليه فى شوق ولهفة ، وكان قد أطرق ، ثم رفع وجهه وقد غامت عيناه قليلاً ، ثم لانت ملامح وجهه وأنشأ يقول بصوت واضح النبرات :
       " كنت فى التاسعة عشرة من عمرى وفى أول دراستى العالية ، وكان قد مضى علىّ سبعة أعوام فى القاهرة قضيت جانبًا منها مع بعض أقربائي ، ومضيت الجانب الآخر مع بعض الأسر الفرنجية التى تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن أهليهم .. وكنت دائماً أتخير الأسر الهادئة الكريمة الخلق .. وأقمت مرة مع سيدة أجنبية ، وكانت صبية جميلة وحديثة العهد بالقاهرة .. وكان زوجها يعمل سحابة النهار ، وجزءاً من الليل ، وكنت أرجع من المدرسة فى الساعة التى يكون فيها الرجل قد عاد إلى عمله .. ولهذا ما كنت أراه إلا نادراً .. وكانت الزوجة مع جمالها دمثة الطبع ، طيبة الأخلاق ، تعنى بى عناية فائقة ، ترتب غرفتى وتنظم كتبى ، وترتق ملابسى الممزقة ، وتعمل لى أكثر مما تعمل لزوجها ، وكانت تحب أن ترى ما فى القاهرة من حسن ، فزرنا معاً أجمل الضواحى وأنضر البساتين ، وهى تزداد بى كل يوم تعلقًا وألفة ، حتى توثقت بيننا عرى المودة وأصبحت تترقب عودتى من الجامعة أكثر مما تترقب عودة زوجها من عمله ، وأصبحت ألج عليها غرفتها فى أى وقت ، وأراها على أى حال تكون عليه ..
       ومرت أيام وأنا لا أحس بوجود الزوج معنا فى منزل واحد وأصبحنا من وفرة السعادة كأننا فى حلم جميل ..
       رجعت مرة إلى المنزل ساعة الظهر ، فلم أجد السيدة فى ردهة البيت كعادتها ، وكنا فى قلب الصيف ، والحر شديد فتمددت على فراشىّ ونمت .. واستيقظت قبل مغرب الشمس وهتفت باسمها فلم تجب .. فنهضت من فراشى ومشيت نحو فسحة البيت فرأيت باب غرفتها مواربًا فأدركت أنها نائمة ..
       وحركت بابها برفق .. ودخلت وعينى على السرير .. فوجدت جسما ممدوداً ملتفًا فى ملاءة بيضاء .. وحلى لى أن أداعبها قبل إيقاظها فتقدمت من السرير حتى قربت منها وجذبت رجلها فلم تتحرك .. فتحولت إلى خصرها ودغدغتها .. ووقفت أرقب حركة جسمها وأنا لا أكاد أتماسك من مغالبة الضحك المكتوم .. وتحرك الجسم أخيرًا وانزاحت الملاءة .. وظهرت مقدمة رأس .. رأس صلعاء ..!
       فذهلت وسمرت فى مكانى مبهوتًا .. كان وجه زوجها ..؟ أجل ..
       فانفجرنا ضاحكين .. ولما هدأت عاصفة الضحك عاد الصديق إلى حديثه ..
       " كان موقفًا حرجًا .. فشدهت .. ووقفت ذاهب النفس وجسمى يتصبب عرقًا .. ثم رأيت نفسى أقول فى غضب بصوت المحموم ..
       ـ ساغادر الغرفة يا سيدى ..!
       فنظر الرجل إلىّ دهشًا .. وقال وهو يصعد فىّ بصره ..
       ـ ستغادر الغرفة ..! ما السبب يا سيدى ..! .. ما الذى جرى ..؟
       ـ أثاث الغرفة رث ... ثم هى بعد ذلك متناهية فى القذارة ..؟
       ـ كيف ذلك يا سيدى وقد جئنا لك بكل شيء جديد ..؟
       ـ أبداً إنها فى غاية القذارة ..
    وتدفق من فمى كلام لا أعرف له مرمى وكان لابد من ذلك لأنجو بأعصابى ..
       وعدت إلى غرفتى وأنا لا أكاد أتصور شيئًا مما حدث ، ولازمتنى حالة من الهدوء غريبة .. ثم لبست ملابسى وخرجت إلى الطريق .. وهنا عادت إلىّ الخواطر ، وأخذت أتصور الموقف على شناعته وحال الزوج بعد أن يرجع إلى نفسه ، ويدرك أنى كنت متهجما على مخدع زوجه .. وواضعا يدى على سريرها .. وجسمها ..!
       وظللت جزءاً كبيرًا من الليل وأنا متردد بين العودة إلى المنزل ، أو إيفاد صديق ليجئ لى بمتاعى وكتبى .. ثم رأيت الرأى الأول ، واتجهت صوب البيت وأنا مقدر كل الأحداث .. وكان الزوجان قد ناما .. وبقيت أساهر النجم حتى الصباح ..
       ورأيت الزوجة فى اليوم التالى جالسة تقرأ فى كتاب على أريكة فى الردهة .. فمررت وأنا أذوب خجلاً .. وتطلعت إلى وجهها فرأيته لا ينم على شيء مما حدث بينى وبين زوجها ، فقد كانت تبتسم فى مرح .. فغاظنى هذا وبلغ منى الألم مبلغه ..
       وقضيت بعد ذلك أيامًا فى البيت ، ونظرى لا يقوى على مجابهة الرجل ، وكان يغيظنى منه بروده وهدوؤه .. وامتلاكه زمام أعصابه وكنت أتخيل أنه بلغ مبلغًا من خبث الطوية وبراعة الحيلة وأرى فى صمته تبيتًا لأمر فى نفسه ، وكنت أود لو يثور ويضاربنى وتنتهى المعركة بيننا على أسوأ الفروض ..
       وجاءت عطلة العيد فبارحت الغرفة إلى الريف ، ولم أعد إليها بعد ذلك أبدًا .. تركتها مخلفًا فيها أمتعتى وكتبى .. وهى تذكار دائم على أيام هنية ..
       ولا زلت أرى المرأة وزوجها كلما ذهبت إلى القاهرة .. وأغلب الظن أنهما لم يغيرا المنزل .. كما أن الرجل لا يزال على حاله هادئاً بارد الطبع لا تعبر ملامح وجهه عن حزن أو فرح أو أى انفعال نفسانى .. أو عاطفة من عواطف الجنس البشرى ..
       أما المرأة فقد أصبحت بادنة نوعاً ..!
***
       وفرغ صاحبنا من قصته وانطلق يدخن ، وعدنا نشرب الشاى ، وكان الفجر قد قرب ، وبدت خيوط النور فى الأفق ، فدرنا حول المزرعة لآخر مرة ، وكنا قد تعشينا فى أول الليل ، فلما دنا الفجر أحسسنا بجوع شديد وكان الطعام سيجيء إلينا عند الشروق ولا طاقة لنا على انتظاره .. فقد اشتدت علينا وطأة الجوع ، وأخذت بطوننا تعصرنا عصرًا ..
       وبعثنا اثنين منا إلى حديقة كروم قريبة ليحملا لنا منها ما يمسك بطوننا ، وجلسنا فى انتظارهما بصبر بالغ وقد انقطعنا عن الحديث ، وإذا بنا نسمع نباح كلاب المزرعة فجأة .. فصوبنا أبصارنا تجاه الصوت فرأينا غبارًا شديدًا يسد عرض الأفق .. ومددنا أعناقنا فأبصرنا قطعانًا كبيرة من الضأن قادمة من الطريق الزراعى الكبير ومتجهة إلى بعض القرى القريبة .. وظهر أمامها رجلان ضخمان يلوحان بعصوين طويلتين .. وحول القطيع كلاب كاسرة تطوقه من كل جانب ، وخلف القطيع امرأة ترتدى دثارًا أسود فاحماً .. وتهش بعصا رقيقة على الغنم ، وتزجر فى صوت رنان كلاب المزرعة عن كلابها ..
       وقربت القطعان منا .. وكان أحد الرجلين معلقًا فى عنقه مزمارًا طويلاً .. أما الأخر فكان يحمل على ظهره قربة ضخمة فيها متاعهم .. وأخذنا نرقب القطيع بعينى الصقر حتى بعد عنا ، فشيعناه بأبصارنا وبطوننا الخاوية تمزق أحشاءنا .. وحدجنا الأحمال الصغيرة التى تتوثب حول القطيع الماضى فى طريقه بعيون جائعة ، ومر فى ذهننا خاطر سريع ، ودون أن ننبس بكلمة انسللنا فى أثر القطيع متجنبين طريقه .. وجرينا شوطًا ثم كمنا فى جرن كبير من أجران القمح الهش فى أقصى المزرعة ، ومرت قطعان الضأن ، وملأ خياشيمنا الغبار المتطاير من أرجلها .. وكانت المرأة لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة وتضرب الصغار بعصاها .. وجاوزوا حدود المزرعة ، وابتدأ الرجل حامل المزمار يزمر ، ومدت القطعان أعناقها ثم تقدمت فى صمت وسكون عجيبين .. وانقطعت المرأة بعد صوت المزمار عن الكلام ، وسكنت حركة الكلاب وانقطع نباحها .. وكان فى القطيع حمل صغير ما فتىء طول الطريق يتوثب ويركض فى كل اتجاه ، ويضرب برجليه الأرض ، فلما سمع صوت المزمار سكن أيضا واستقام بأعجوبة كسائر رؤوس القطيع .. وكنا قد تهيأنا لنقتنصه .. فما سمعنا صوت المزمار حتى شلت أيدينا ، وعجزنا عن الحركة ، وبقينا ممددين على الأرض وعيوننا تتطلع إلى السماء وتتأمل النجوم .. ورجع المزمار الحلو يتردد ، كان كأنه مزمار داود يبعث من وراء الأجيال ويدوى فى هذا الليل ، وهذا السكون .. وظللنا فى مكمننا حابسين أنفاسنا ، وصوت المزمار يهفو والقطيع يسير ونحن نرقبه عن بعد ولا نستطيع أن نتحرك ..
       ورجعنا إلى مكاننا من الحقل ونحن لا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة التى اعترتنا فى تلك الساعة .. أكان ذلك من تأثير الموسيقى ، أم شعور آخر أيقظته الموسيقى ..
       وعاد الرفيقان الذاهبان فى طلب الكروم .. وكان أحدهما يحمل كروما أما الأخر فكان يحمل شيئا آخر .. كان يحمل حمل الضأن الذى أفلتناه من أيدينا ..
       وأشعلنا النار وشويناه .. وكنا ننظر إلى اللهب الأحمر وهو يشوى لحمه .. ونتصوره منذ لحظات وهو يجرى ويتوثب بين رفاقه مرحا سعيد طروبا ، فيعصر الهم أفئدتنا ..
       ولما جلسنا نأكل .. انقطعنا جميعا عن الكلام ، كأن على رؤسنا الطير .. وكانت كل قطعة من اللحم تستقر فى جوفنا تمزق أحشاءنا تمزيقا .. كنا نتصور أن الحمل لا يزال يجرى ويتوثب ، والقطيع يسير والمزمار يزمر ..

===========================
نشرت القصة فى مجلة الرسالة بالعدد 392 بتاريخ 6/1/1941 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
========================== 














بعد العرس

عندما فكر " مختار " فى الزواج بعد سن العشرين مباشرة ، لم يجد من ذويه الاعتراضات الجمة التى تعترض غيره من الشبان ، صحيح أن جدته ، لعنها الله ، أدخلت أنفها الطويل فى المسألة ، ونعتت العروس بنعوت لا يمكن أن تصدر من سيدة محترمة مثلها ..! ولكن مختاراً قضى على كل تخرصاتها وأكاذيبها بدليل منطقى واحد ، وضع هذه العجوز الحمقاء على الرف ، وأقام حول العروس الجميلة نطاقا من الموانع ، وقد وصفها بأحسن ما يمكن أن توصف به امرأة ، وبرهن على ذلك بأدلة مادية محسوسة ..
وعلى الرغم من أن مختاراً كان شابًا مجربًا – كما يعد نفسه – فقد أخذ يتصور ، فى الأيام التى سبقت حفلة الزفاف ، أنه مقدم على عمل جليل الشأن عظيم الخطورة ..! صحيح أن له دراية بالنساء ، وأنه خالط ومازح وداعب ، فى مدى العشرين سنة التى تصرمت من عمره ، الكثير منهن ..! ولكن الزواج – كما تخيل – أمر يختلف عن كل هاتيك الأمور ، فليست المسألة مسألة دفوف تدق ، وموسيقى تصدح ، وباب يغلق على العروسين ، إنما هى أكثر وأعمق من ذلك بكثير ، ولهذا قضى الأيام القليلة التى قبل العرس وهو على حال من الاضطراب لا تحتمل .. وعلى الرغم من أنه شاهد العروس مرتين ، فى خلال تلك المدة ، وتحدث معها منفردًا فى الشئون العامة وتناول السياسة الدولية وحقوق النساء ، فإنه لم يستطع مطلقًا أن ينزع عن فكره خطورة الأمر الذى هو مقدم عليه وغموضه .. على أنه شوهد فى اليومين السابقين ليوم الزفاف مباشرة هادئ النفس قرير العين مثلوج الفؤاد ، حتى أنه أشرف بنفسه على تنظيم الغرف وإعداد الفرش ، وداعب – فى أثناء ذلك – بعض الخدم والحمالين وعمال الصوان ، وكتب بنفسه وخطه كثيرا من بطاقات الدعوة ..!
ولما مرت حفلة العرس بسلام .. قضى العريس الأسبوع الأول من شهر العسل فى المنزل ، وهذا عمل مألوف وشائع بين الشبان ، على أن العريس شعر بعد هذا الأسبوع الذى لا يدرى كف قضاه ، بالضجر المشوب بالندم ، وأحس بأنه سجين ، وأنه بدأ يتعذب ، وأنه كان عليه أن يكتفى بيوم واحد أو يومين على الأكثر ، فليس فى المسألة ما هو جديد وممتع على الإطلاق ..! وفكر – وأرمضته الفكر – فى حل يخرجه من هذه الورطة .. واستقر رأيه أخيراً على أن يتريض فى الضواحى ، واستحسن أن تصاحبه العروس فى هذه النزهة الجميلة ، وقبلت العروس مسرورة ، ودخلت غرفتها لتتزين وتتهيأ للخروج ..
ولبس الزوج ملابسه فى أقل من خمس دقائق ، وجلس فى البهو يقلب بصره فى صحيفة من صحف الصباح ، وينتظر فراغها من زينتها .. ومضت خمس دقائق ، وعشر .. وعشرون .. وهى أقصى مدة كان يقدرها ويمكنه احتمالها ، وبدأ بعدها يعيل صبره ويضجر ..! وسدد بصره إلى باب غرفتها المغلق .. وكان لا يرى داعيًا لإغلاقه ..! وأنصت مدة .. وتصور أنه يسمع حفيف ثياب حريرية تزل فى رفق عن جسمها الناعم ، حتى تجرد الجسم من كل ما عليه تمامًا ..! فخجل من هذا المنظر العارى ، وحاول طرده من ذهنه بكل الوسائل ، فأغلق عينيه ..! واستمر على ذلك مدة لا يمكنه تحديدها بالضبط ، ورفع رأسه على صوت باب قريب يوصد بشدة ، ومرت عليه الخادم ، وعلى ذراعيها ملابس مكوية .. وانسابت إلى إحدى الغرف .. وانتصب على أثرها ، وأخذ يتمشى فى عرض البهو ويقف من حين إلى حين على باب زوجته ويتسمع ..! وكان القلق قد استحوذ عليه بشكل عجيب ..! فعن له أن يهتف بها ، ولكنه عدل عن هذا الخاطر بعد أن رآه تدخلا مباشرًا فى شئونها الخاصة ، قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه .. واكتفى بأن مد شفته وأخذ يتمتم ويزمجر .. واندفع الدم إلى رأسه ، بعد خمس دقائق أخرى ، وأحس بتراخ فى أعضائه وثقل وتعب أعقبته ثورة فجائية انتفضت له جوارحه كلها ، وهم معها بأن يحطم عليها بابها .. ولكنه تمالك نفسه ، وراح يزيد فى سرعة مشيته ويضرب بنعليه أرض البهو بصوت مسموع ..
ودار مصراع الباب ، وأطلت العروس ، فاهتز طربًا وطار من رأسه كل ما كان يزعجه ، ولكنه روع بعد ثوان بما سمره فى مكانه كالتمثال الأبله ..! فقد خرجت العروس لتنادى الوصيفة ، لأمر استبطأتها فيه ، وراعه وأدهشه وأذهله ، أنها لا تزال فى لباسها الأول ..!! وقف حائرا وعلى وجهه كل علامات الدهشة مجتمعة ..! يسائل نفسه :
ما الذى عملته المصونة فى مدة الثلاثين دقيقة التى خلت إذن ..؟ لعلها كانت تفكر فى انتقاء الثوب الموافق للصباح ..! ولم تقرأ العروس شيئاً مما على وجهه .. وكانت سطحية النظرة ككل امرأة .. ولهذا ابتسمت له فى دلال وخفر ، ودخلت غرفتها ، وتركت الباب فى هذه المرة مفتوحاً ..
وعاد مختار يذرع أرض البهو آسفاً حانقًا ، ويقف على بابها هنيهة كلما مر عليه ليرقبها وهى تسرح شعرها .. ولما انحنت لتلبس جوربها .. لاحظ لأول مرة أن فى ساقيها التواء ظاهرًا ، فامتعض لهذا جدًا ، وحول وجهه عن الباب ، وهو يعجب ويدهش من أنه لم يلاحظ ذلك من قبل ، مع أنه شاهد الساقين عاريتين عن قرب مراراً ..   
       وحاول أن يذكر حادثًا خطيرًا مر عليه فى حياته ، ليصرفه عن التفكير فى هاتين الساقين ، ولكنه لم يستطع أن يذكر حادثًا أشد خطورة من الزواج نفسه ..! وأخذ يرمق زوجه بجانب عينه ، ويرى فى كل حركاتها وسكناتها ، وهى تتزين وتجرى بالأحمر على شفتيها وخديها .. سخفاً لا يطاق .. وتصور أنها تتوانى فى زينتها لتتعمد غيظه وكيده ، فساوره خاطر كاد يدفعه إلى أن يدخل عليها الغرفة .. ويحطم كل أوانى الزينة ، وزاده غيظًا أن أشد الناس غباء يستطيع أن يلاحظ ما هو عليه من سوء الحال ، ولكنها لم تلاحظ شيئاً ، بل كانت تبتسم فى بلاهة ، وتتوارى عنه فى ركن من الغرفة ، لأنها خجلى من نظراته الحادة ..!
       وخرجت تتهادى وتقول له بعينيها " ما أجملنى .. "
***
       وهبطا الدرج صامتين ... وخرجا من شارع البيت إلى ميدان الحلمية .. وكانا قد قررا البدء بحدائق القبة ، ثم المطرية والمرج – إن أمكن – ولما كانت العروس لم تألف وجوه الناس الغرباء ، كما أنها لا تحب الجلوس وحدها فى مجلس النساء فى الترام ، فقد استقلا عربة إلى المحطة ، وجلسا يتحدثان ويتبادلان البسمات والنظرات ، ولاحظ مختار أن فى حديثهما على بساطته كلفة ظاهرة ، وأنه لأول مرة فى حياته ، يعير باله للمارين فى الطريق .. ويواجه نظراتهم بغيظ وحنق ..!
       ولما بلغا محطة كوبرى الليمون ، كان القطار على الرصيف يدخن ، فأسرعا إليه ، وجلسا متقابلين فى أول مقعد مما يلى الباب ، وكانت العربة غاصة بالركاب تقريبًا ، ولم تبق إلا مقاعد قليلة خالية متناثرة هنا وهناك تنتظر الركاب الجدد ، وكان مقعدها أطول من مقعده ومعدُا لراكبين ، فكان مختار كلما دخل العربة راكب جديد يسارقه الطرف ، ويخشى شر جلوسه بجوار زوجته ..!! وكان يشتد اضطرابه وينخلع قلبه ، إذا وقف الراكب فى أول الممر ، وعينه على المقعد ، وبدا له أنه يشاور نفسه ، ودفعه القلق إلى أن يطل من النافذة ، ويراقب كل القادمين الجدد ، وأخذ مع مرور الدقائق يتضايق ويضجر ويتأفف ، ويتصور أن القطار يراوغ لتعذيبه وإيلامه ، وأن عيون الركاب – لسبب لا يفهمه – تحدق فيه ، وتسخر منه ، وتهزأ وتضحك أيضا .. ورأى شابين قادمين من بعيد ، وهما يتضاربان ويقهقهان .. وواحد منهما يجذب الآخر من طرف سترته ، ويحاول إيقاعه على الأرض ، فأحس لقدومهما بالخطر الزاحف ، ونهض بسرعة وجلس بجانب زوجته ، وتشاغل معها بالحديث حتى يمرا ، ودخل الشابان العربة ، ودارا ببصريهما فيها .. ثم جلسا .. واحد منهما أمام مختار دون تردد ، ودخل الآخر فى جوف العربة ، وشعر مختار أن كابوسًا ثقيلاً حط عليه فجأة ، فانقطع عن محادثة زوجته ، ووضع رجلاً على رجل ، وأظهر الاستياء والتذمر .. ومرت أكثر من دقيقة ، تحقق بعدها أن الراكب الجديد يبادل زوجته النظرات بشراهة ، وأن بصره كثيرًا ما ينحدر عن وجهها ليستقر على ساقيها ..
       وبعض الأحيان يتطاول على فخذيها ..! فاحتقن وجهه ، وأحس بالدم الفائر يغلى فى عروقه ، وأخذ يرمى الراكب بالنظر الشرز .. وهذا لا يعيره باله ، ولا يحس بوجوده ، وإنما أخذ وهو باسم فى خبث – كما تخيل – يرمى عليه سحب الدخان الكثيف ، وزاد مختار غيظًا ودهشه أن زوجته كانت تبادل الراكب نظراته وبسماته ، وهى طروب ، ويكاد الدم يطفر من خديها ، وهذا أمر لم يحصل لها من قبل على الإطلاق ..
       وتحرك القطار وكانت الدنيا فى صميم الصيف ، والهواء مع سرعة القطار شديدًا ، وباب العربة الزجاجى بالياً تنقصه المفاصل .. فأخذ ، كلما زاد التيار ، ينفتح ويندفع منه الهواء إلى داخل العربة بشدة ، ويرفع ثوب زوجته حتى ساقيها ، وبعض الأحيان يتمادى – إذا كان شديدًا جداً – إلى فخذيها ، فكان مختار يجن ويرمى زوجته بنظرات مفزعة ، والمسكينة تضطرب ، ويحمر وجهها ، وتضع يدها على طرف ثوبها ، وتنحنى على الأرض ، وينهض هو ليرد الباب ، ويكاد من الحمق يحطمه ، ويرتد إلى مكانه ، وتعود الزوجة إلى جلستها وهدوئها ، وهنا يهب التيار من جديد وينفرج الباب ثانيًا ليرتفع الثوب .. فاشتد سخط مختار وغيظه وبدت على وجهه أمارات التعاسة بكل معانيها ، وأخذ الراكب الذى أمامه يبتسم ويكتم ضحكاته فى صدره ، ورآه مختار فود لو يضاربه ويخنقه ويهشم له أنفه ، ولكنه ذكر موقف زوجته من هذه المعركة الحامية ، فكتم ثورته وجلس يدور ببصره فى العربة شاردًا ، فرأى الركاب جميعًا متحولين إليه ، وأنه غدا محط أنظارهم ، وموضع سخريتهم وضحكهم وتسليتهم فى الطريق ، فود من فرط التعس لو يبكى ..
       ولما نزلا فى حدائق القبة ، ومشيا فى شوارعها ، كان الهم لا يزال جاثمًا على صدره .. وحادث القطار لا يزال ماثلا فى ذهنه ، فصمت واكتفى بالنظر إلى المنازل والحدائق والحقول البعيدة ، كما أنه لاحظ المارين وهم يأكلون زوجته بنظراتهم .. وكان أشد الناس نظرًا الشبان .. وحمله هذا على الصمت والتفكير ، فراح يذكر نفسه وهو يمشى فى الطرقات وحده هادئاً مسروراً لا يعنيه من أمور الناس شيء .. وكثيراً ما كان يحدث نفسه بصوت عال – متى سمحت الظروف – ويغنى أيضا متى طاوعته الحنجرة ، ويتغدى وهو ماش ، ويمص القصب أيضا ..
       أما الآن فإنه لا يستطيع حتى التحدث بصوت مرتفع .. لأن عليه أن يحافظ على كرامة الزوجة المصون ، ويرعى التقاليد .. ولم تكن زوجته تعرف ما يدور بخاطره ويشغله عن الحديث معها ، ولاسيما وهما فى أول نزهة ، وفى شهر العسل أيضاً ، وحز فى نفسها هذا ، وبدت دلائل الحزن والكرب على وجهها ، وكان مختار يحدق فيها من حين إلى حين ويشمئز من الأحمر الصارخ الذى لطخت به شفتيها ونفضته على وجنتيها .. وتبين ، بعد طول النظر والتأمل ، أن وجهها جملة ينقصه الجمال الأخاذ .. فالجبين مثلاً ضيق .. والوجه مستطيل أكثر من اللازم ، والذقن بارز جداً .. ثم أرنبة أنفها ..! وهدبها وعيناها ..! ثم هى بعد هذا كله متناهية فى الغباء .. ومن سخرية الأقدار أنها تفكر كما يفكر هو ، وتشغل ذهنها بالتوافه من الأمور ..
       ما الذى يمكن أن تفكر فيه المرأة ..؟ تغيير الثوب .. شراء المساحيق .. زيارة الصديقات .. حفظ النوع ..! المجئ إلى هذه الدنيا بمخلوقات شقية مريضة .. واء ، واء ، واء .. النسل ، أجل النسل ، وتصور نفسه وقد جاء كل عام بكتلة من اللحم والدم لا معنى لها ، فأحس كأن أحدًا يأخذ بمخنقه ويضغط على يافوخه .. وتخيل صياح الطفل وولولته فى حجرات البيت وإطلاق حنجرته طول اليوم بأعذب الأنغام ..! ولا أحد يستطيع أن يفهم علة بكائه .. مربية تدفعه فى عربة إلى الحدائق .. إلى جهنم بكل هذه الأشياء ، خدم ..! سيدى .. إلى جهنم الحمراء بسيدهم هذا إن أنجب .. وبسيدتهم هذه إن أنجبت أيضاً ..!!
       وبعد أن أذهلته الفكرة ، رجع إلى نفسه ، ورأى أن يستعصم بالصبر ويسلم أمره إلى الله ، وبدأ يحادث زوجته فى اقتضاب عن كثير من الأشياء ، وراعه أنها بعد دقيقة واحدة انطلقت تهضب بالقول وتفيض وتسح وتسهب فى وصف التوافه من الأمور ، وتسأل أسئلة سخيفة لا معنى لها ، وتثرثر فى صبر عجيب عن أشياء لا تخطر على باله ، ولا يعرف عنها شيئاً على الإطلاق ..
       وزاده هذا كله بلاء على بلاءه ، ومرت عليهما سيارة كبيرة من السيارات العائدة إلى القاهرة ، فأوقفها ، وأركبها فيها ، وركب وراءها وهى ذاهبة اللب من الحيرة ، وكان قد رأى أن العودة هى خير ما يمكن عمله خوفًا من تطور الحال بعد أن تتكشف أمامه عيوب زوجته – وهى كثيرة – وتبدو على حقيقتها وبشاعتها ، وجلسا فى مقعد خلفى وعينه على الحقول والأبنية ، والشمس فى صميم الضحى .. وأخذت العروس كلما مرا على منزل جميل أنيق تتمناه لهما ، وكان العريس يبادلها هذا الشعور على أن يكون المنزل – فى سره – له وحده ..! وسمع على غرة صياح طفل حاد ، فتلفت ، فرأى طفلاً على صدر سيدة فى ركن من العربة يولول ويصيح ويدفع رجليه ويديه بقوة ، فاستاء منه الركاب .. وعبثًا حاولت السيدة إسكاته بكل الوسائل .. وأخيراً انحنى رجل جالس أمام السيدة – ويبدو عليه أنه زوجها – وحمل عنها الطفل وضمه إلى صدره هنيهة ، ثم رفعه على يديه وأخذ يهزه ويدللـه .. وحدق مختار بشدة فى هذا المنظر الممتع ، وانطلق الأب يداعب الطفل ويربت على خده ويشد أصابعه ، حتى كف عن الصياح وأخذ يبتسم ويضحك .. ووضع مختار نفسه فى مركز هذا الرجل فكاد يغمى عليه ..! وراقب زوجته فغاظه أنها تبتسم ، وأن وجهها .. يفيض بالعطف والحنان على الطفل .. وأنها تود لو يسمح لها الرجل الغريب ويدعها تحمله على صدرها لحظة .. وابتسمت لزوجها ابتسامة ذات معنى وكأنها تقول له بعينيها " أنظر .. ما أحلى الأطفال ..! "
       فارتعد لهذا وشحب لونه ، وحول وجهه بعيدًا عنها ، وصمت حتى نزلا من العربة ، وركبا مرة أخرى عربة إلى المنزل العامر ..
***
       ودخل كل منهما غرفته وأغلق عليه بابه ، وكانت الغرفتان متجاورتين وبينهما باب صغير .. واضطجع مختار على كرسى طويل .. وهم الدنيا يحط على صدره ويدير رأسه كالرحى ، وأخذ يخفف من حدة أعصابه المرهفة بهز ساقيه .. وسمع فى غمرة كربه أنات وزفرات متقطعة عقبها بكاء شديد ، ينبعث من الغرفة المجاورة ، فأدرك أن زوجته تبكى .. وجلس فى مكانه غير مهتم أولا ، ولما اشتد البكاء أحس بسكاكين حادة تمزق أعصابه .. فنهض عن كرسيه ثائراً وتقدم نحو الباب ليضربها ضربًا موجعًا .. وهنا خف البكاء فتمالك نفسه واكتفى بأن ينظر من فرجه الباب ، فشاهد أبدع المناظر على الإطلاق .. رأى زوجته نائمة على السرير على بطنها ، ووجهها مدفون بين الوسائد ، ورجلاها تعملان زاوية مع جسمها المرتعش مع ضربات رجليها فى الهواء ، وارتفاع نشيجها الممزق لصدرها .. وبعث فيه المنظر مع ما فيه من إيلام .. كل ضروب الاشمئزاز .. فبعد عن الباب ، وراح يتمشى فى أرض الغرفة جيئة وذهاباً ، حتى أحس بخور وضعف وفتور ، فاضطجع على الكرسى ، وأخذ يهز رجليه وساقيه وهو يحس بتوتر أعصابه ، وضيق وطأة أنفاسه على صدره ، وتحسس بيده اليمنى علبة ثقاب كان يعرف موضعها من مائدة قريبة دون ان يحول رأسه ، وأشعل السيجارة ، ونفخ دخانها ، وهو مغمض العينين واستراح إلى وضع السيجارة بين أصبعيه .. وأخذ ينقر بيده اليسرى على حافة الكرسى نقرات منتظمة ، وعينه من وقت لآخر تستقر على وجهه فى المرآة أمامه ، وراعه أنه قد تغير فى ساعات قلائل تغيرًا يفزع .. ومرت عليه حوادث اليوم على بساطتها مجسمة مروعة ، وكان كغيره من الشبان المرضى بالأعصاب تروعه توافه الأمور ، وتفزعه حقائرها وتأخذ عليه مسالك تفكيره ووعيه ، وتهد كيانه وجسمه ، فلا يستطيع معها أن يفعل شيئًا على الإطلاق ، يجد نفسه معطل القوى فانى الجهود خائر العزم وكان الخاطر التافه يفزعه ويرمضه ، ويحمله على التفكير فيه يومًا ويومين وثلاثة ، ولا يبعده عنه ويخلصه من إساره إلا خاطر آخر جديد يتخذ هيئة الأشد خطورة ..
       ولم يكن وهو جالس هكذا يفكر تفكيراً منتظماً ، أو يستطيع أن يوجه ذهنه إلى شيء معين بذاته ، فقد كان قبل الزواج مثلا يختلط بصديقين أو ثلاثة .. رافقوه قبل العرس إلى بعض الحوانيت .. ثم بأمه وهى تشرف بنفسها على إعداد الفطائر ، وذكر إخوانه الذين اعتذروا عن الحضور لأسباب قهرية .. ثم والد العروس بغطرسته التى لا مبرر لها وتطاوله على الكثير من الخدم بالسباب والشتم البذئ الذى لا يصدر حتى من أحقر أبناء الشوارع ..! على أن خواطره مع تضاربها ، وتنقلها ودورانها حول العرس لم ترتد مطلقًا إلى السبب المباشر للزواج مثلا .. وإنما كانت تحوم حول أمور تافهة حدثت فى يوم العرس بالذات .. فقد ذكر بوضوح أن مصباحًا كهربائياً تهشم ، وأن كرسياً من الكراسى التى حول الموائد قد تحطمت ساقه كذلك ، وأن تلميذًا من أقاربه صدمه خادم يحمل صحاف الطعام ، وصب عليه صحن ملوخية بما فيه ، فتلوثت حلته الجديدة التى أعدها للعرس ، وبكى التلميذ بكاء مرًا على الرغم من أنه حمل إلى مجلس السيدات ..! ورفض سماع المطرب .. وذكر أيضًا أن كثيرًا من المتطفلين على الأعراس أخذوا يشوشون على المغنى فى بداية الليل ، حتى اضطر على الاستعانة بثلاثة من فتوات الحى .. ونجحت هذه الطريقة فعلا .. ذكر هذا كله ولم يذكر مثلا أهم حادث فى تلك الليلة عندما أدخل على العروس ، وود من فرط الاضطراب والخجل لو تنشق تحته الأرض ..!! ولم تكن خواطره مع تفاهتها تبعده عن النظر إلى المستقبل المجهول بعين القلق ..! فقد أخذت طلائع المستقبل تبدو مع استحالتها قريبة الحدوث ..
       وأحس بعد نصف ساعة من التفكير الملح المضطرب بالحمى تسرى فى جسمه ، فأخذ يرتعش رعشات عنيفة ، دارت معها أرض الغرفة فى عينيه ، وخفت حدة الأصوات فى الشارع ، وسكن كل شيء فى الحى ، ورفع ذراعه بعد مدة إلى جبينه ، ومسح العرق المتصبب .. ثم تحامل على نفسه حتى بلغ السرير وتمدد عليه ، وضم الغطاء على جسمه وهو يرتعد ، واصفر فى نظره كل شيء فى الغرفة .. وعاد العرق يتصبب ، وثقلت أجفانه ، ونام نوماً متقطعاً تتخلله أحلام مزعجة ، فيها صياح طفل ، وسقوط سيارة فى ترعة ، وعراك بين عروسين جرهما إلى المحكمة الشرعية ..! وفتح عينيه قبل المغرب ، وتململ فى الفراش ، وحاول النهوض فلم يستطع .. ورجع إلى نومه المتقطع وأحلامه المزعجة ..! وكان الجدال بين العروسين قد تطور واشتد فى الحلم حتى نطق الزوج بكلمة الطلاق ، وهو يصيح بأعلى صوته ، واستيقظ على الصوت ، وعصر عينيه وهو يفكر فى الطلاق تفكيرًا جديًا ..
========================= 
نشرت القصة فى مجلة العصور بالعدد 2 بتاريخ 9/12/1938 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
==========================  


نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " فندق الدانوب " سنة 1941

امرأة أحلامى

اعتدت أن أصيف كل عام عند سيدة أجنبية تقيم فى الرمل ، وكانت امرأة غربية الأطوار بادية الشذوذ ، تحيط نفسها وبيتها بجو من الهدوء المطلق، فلا تحب أن ينزل عندها أحد من المصيفين على الرغم من أنها كانت فى أشد الحاجة إلى المال ، وكان  نفورها من جنس الرجال لاحد له ..
فقابلتنى فى أول الأول بمنتهى الحذر والتحفظ ثم أنست بى على ممر الأيام .. وكنت لا أرى طوال مدة إقامتى معها رجلا غيرى يدخل المنزل .. فهى تدع عند السلم الخارجى حقيبة صغيرة من القماش يلقى فيها باعة الخبز والخضار واللحم ما تحتاجه لطعامها .. فلا يراها منهم أحد ولا تراهم ..
وكانت غرفتى تطل على البحر وبعيدة عن غرفتها ، فكنت لا أراها ولا اسمع صوتها إلا نادرا .. بيد أننى كنت أسمعها تتحدث عصر كل أحد مع امرأة علمت أنها جارتها ، وأنها المرأة الوحيدة التى تزورها ..
ومرت الأيام وأنا لا أسمع إلا صوت المرأة وهى تناغى القطط ، أو تحادث نفسها .. !
وكان الهدوء الشامل الذى يخيم على البيت يحبب إلىَّ الإقامة فيه جانبا كبيرا من النهار والليل ..
فكنت أجلس فى الشرفة وأشرف على البحر، وأمتع بصرى بما يحيط بى من مناظر الطبيعة الخلابة .. وأنا لا أسمع فى أرجاء المنزل إلا دقات الساعة المعلقة فى البهو ، وهى تدق من حين إلى حين ..
وكان هذا الصمت يحملنى على التأمل ، وتوجيه نظرى إلى هذه المرأة لأعرف علة وحدتها المرة .. بيد أننى كنت كلما حاولت أن أجر لسانها إلى الكلام لعلى أعرف بعض حياتها ، وبعض سرها أرتد خائبا ..
فهى امرأة من طراز نادر فى الذكاء والحذر .. ومن اللواتى يقلن لك بأعينهن إذا ما تجاوزت معهن الحد فى الحديث إلى هنا ونفترق .. !
على أن هذا الكتمان كان له اثره السىء على أعصابها ، ووقعة المر على نفسها وجسمها ، فقد بدت عليها عوارض الشيخوخة قبل الأوان .. وثقلت عليها الوحدة فكانت تحتد وتشتد فى الكلام لأتفه الأسباب ..
وساء ظنها بالناس أجمعين ، فكانت تتصور أن خدم العمارة التى تسكنها يتآمرون على قتلها ، وأن إحدى الجارات مشتركة معهم فى تبييت الأمر وتنفيذ الجريمة .. !
وكنت أجاهد لأصرف ذهنها عن هذه الخواطر .. وأعرض عليها التنزة فترفض .. فلا تراها إلا محتبسة فى غرفتها مريضة النفس حزينة ..
لقد كان منظر هذه المرأة يبعث فى نفسى الشجن بأقصى ضروبه .. وكنت أسائل نفسى .. هل هى واحدة من اللواتى لهن ماض مروع ..؟ هل هى إحدى ضحايا الرجل .. ؟ ما معنى هذا الحزن .. وما سبب هذه الوحدة .. أليس لها أقرباء ؟ .. ما من رسالة وصلت إليها .. رسالة واحدة لم تصلها من إنسان طوال مدة وجودى فى بيتها ..
ولما رأتنى ذات يوم أكتب رسالة وأجعل العنوان بإسمها .. نظرت إلى فى أبتسام وقالت :
« إن موزع البريد لا يعرفنى .. فما حمل لى رسالة قط .. أجعل رسالتك على عنوان آخر .. »
كان صوت هذه المرأة الهادئ مشوب بمرارة تقطر حزنا ، إن قلبها يتفطر وجسمها يذوى على التدريج .. لا أنا ولا أحد من الناس يستطيع أن يفعل شيئا لأجلها الآن .. لقد خرج أمرها من يدنا .. إنها الآن تعيش لنفسها بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان ، وحدبها على القطط لا يغير هذه الكلمات ولا يلونها بلون آخر ..
لقد اتجهت عاطفة الرحمة عندها إلى الحيوان بعد أن حرمت من الإنسان ، واتجهت اتجاها قويا فيه حنان أكيد وعطف شديد ..
لقد قمت ذات صباح من النوم فزعا على صوتها وهى تولول وتنوح .. فعلمت أن قطا من القطط قد مات .. واحداً من أبنائها .. كما كانت تنعت هذه الحيوانات دائما .. وأشهد أنى ما رأيت أحداً يبكى على ميت كما بكت هذه المرأة على قطها ..
***
جلست ذات يوم ، بعد أن تغديت ، على السرير لأستريح قليلا .. وحملت لى السيدة قدحا كبيراً من القهوة .. فأخذت أشرب وأدخن .. وكان معى كتاب من تلك الكتب القديمة النادرة الطبع التى أغرم باقتنائها ومطالعتها دائما .. إن هذه الكتب تحمل بين طياتها أسرار القرون وعبير الدهور ..
فتحت الكتاب وأخذت أطالع .. وكان باب الغرفة المؤدى إلى فسحة البيت مواربا .. فسمعت صوتا إنسانياً حلواً يرن فى البهو .. واستمر الحديث بين صاحبة البيت ، وصاحبة هذا الصوت الجديد مدة ..
وألقيت الكتاب وتسمعت .. كان صوتا جديداً يختلف عن صوت جارتها .. وانقطع الحديث وسمعت حركة أقدام تقترب من غرفتى .. لم تكن أقدام المرأة .. كان خطو هذه أسرع وأخف وأنشط ..
ووجهت عينى ناحية الباب ، ومر ظل أمام الباب الزجاجى الكثيف .. ظل امرأة طويلة القامة .. هذا هو كل ما استطعت أن أتبيته .. وكان الزجاج الكثيف ، والباب الموارب لا يسمحان لى بأن أرى أكثر من ذلك ..
ومر الظل أمام الباب أكثر من مرة .. كانت ذاهبة إلى المطبخ وعائدة منه ، وكانت تغنى فى رواحها ومجيئها بصوت أخذ بمجامع قلبى وأسر لبى ..
لم اسمع صوتا أحلى من هذا الصوت .. لم تكن تغنى بلغة أعرفها .. ولكن الصوت كان موسيقيا واضح النبرات لين المخارج ، حلو الرنين ..
وتحركت من فوق السرير ومشيت نحو الباب لأفتحه وأرى صاحبة هذا الصوت الجميل .. ولكن يدى وقفت على مقبض الباب لا تحركه .. رأيت أن هذا لا يليق .. وتبدل رأيى وتراجعت ... وملت إلى النافذة ، وأنا أرمى الجو بدخان سيجارتى .. والصوت يهفو إلى حلواً قوياً .. وبعد الصوت عن سمعى ثم أنقطع .. وأنطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى رتيبة ، مستعرضا الصور المعلقة على الجدران ..
***
عدت إلى البيت لأنام بعد منتصف الليل بقليل ، فألفيت غرفة صاحبة البيت مضاءة على غير عادة .. وسمعتها تحادث السيدة صاحبة الصوت الجميل الذى سمعته فى أصيل ذلك اليوم .. ووجدت أن يداً جديدة مرت على المنزل كله ، فغيرته ولونته بلون آخر ، وذوق آخر .. فقد رتبت الصور، وغير موقع الأثاث ، وغطى المصباح الذى فى غرفتى بالحرير الأزرق .. وفرش السرير بعناية ، وتغير كل شىء فى الغرفة ..
وشعرت عند دخولى فيها بجو أنيق ممتع .. ونمت نوما عميقا مريحا .. وأستيقظت مبكراً عسى أن أوفق إلى رؤية السيدة الجديدة .. وكنت أسائل نفسى هل هى نزيلة جديدة أم قريبة من قريباتها ..
ومرت أيام دون أن أشاهدها .. وكنت أسمع صوتها ، وحركة أقدامها ، وأرى نافذتها المفتوحة ، وغرفتها المضاءة .. هذا هو كل ما كنت أراه .. ولم أحاول غير ذلك ، وتركت لقاءها للمصادفات ، فإن الأقدار هى التى تربطنا بأناس لم يكن لقاؤهم فى الحسبان ، أو الاتصال بهم يخطر على بال إنسان ..
***
رجعت ظهر يوم إلى المنزل ، وأنا شاعر بألم فى إحدى عينى .. وكان الجو شديد الحرارة كثير الغبار ..
وأغلقت نوافذ الغرفة ، وتمددت على السرير .. وحملت إلى صاحبة البيت قليلا من الماء الساخن .. فغسلت عينى ، وأحسست ببعض الراحة ..
وسمعت المرأتين تتحدثان .. وسمعت خلال الحديث لفظة « أكسيد بوريك » فأدركت أن الحديث يتعلق بى .. وتحدثت المرأة مع البواب .. وسمعت حركة أقدام السيدة الجديدة فى البهو .. ثم مضت مسرعة إلى المطبخ .. ولمحت ثوبها وهى ماضية أمام بابى ..
ولما جاءت صاحبة البيت بمحلول البوريك .. وغسلت عينى أدركت اليد التى صنعته ووددت لو أقبلها .. وأكبرت فى هذه السيدة هذا الخلق النبيل مع إنسان لم تره ولم تعرفه ..
شغلت هذه السيدة بعد ذلك تفكيرى ووقتى وتشوقت إلى رؤيتها للغاية ..
***
وخرجت من غرفتى ذات أصيل ، واجتزت البهو وانحرفت إلى الصالة ، فوجدت صاحبة البيت جالسة على أريكة بالقرب من الباب الخارجى .. وبجوارها سيدة فى مقتبل العمر ، وروعة الحسن .. فأدركت أنها النزيلة الجديدة ..
فلما أحست بى صاحبة البيت قالت :
ـ كيف حال عينك الآن .. ؟
ـ بخير وأشكرك ..
وكانت السيدة الأخرى فى أثناء ذلك الحديث قد أطرقت .. فنظرت إليها بجانب عينى لحظة ثم أضفت :
ـ وكل ذلك بفضلك ...
فأجابتنى صاحبة البيت وهى باسمة مشيرة إلى السيدة التى بجانبها ..
ـ لقد كان هذا رأى مرغريت ..
فتحول نظرى إلى مرغريت ، وهى مطرقة .. وأخذ قلبى يزداد وجيبه ورفعت رأسها .. ورأيت وجهها الصبوح الفاتن لأول مرة ، وتشربت روحى من حسنه .. وتبادلت معها كلمات قليلة ، ووجهها فى خلال ذلك يحمر ، ويرف لونه ، ويزداد سحره ..
وأحنيت رأسى ، وخرجت إلى الطريق ، ومخيلتى تسبح فى بحر من الأحلام اللذيذة ..
***
وقدمت لى ذات صباح قدح القهوة بدل أختها .. فتقبلته شاكراً ممتنا وأخذت أحادثها .. فتوردت وجناتها .. وظهر عليها الحياء الذى بدا منها عندما قابلتها أول مرة .. وعاد إلى عينيها ذلك البريق الفاتن الذى يشاهد فى عينى العذراء قبل أن تنخرط فى البكاء ، أو تنفجر من الضحك ..
***
وخرجنا فى ليلة من الليالى لنتنزه لأول مرة .. وسرنا نحن الثلاثة على شاطئ البحر بعد أن أسدل الليل ستائره ، وأوحش الطريق ، ومضى الناس إلى منازلهم ..
وكنت أبادل مرغريت النظرات والبسمات ، وأشد على يدها خلسة ! .. وكنا نتمهل فى السير عن عمد لتتقدم « المدام ! » وشعرنا بعد مضى دقائق قليلة بأن وجودها يضايقنا ، كان هذا هو إحساسنا المشترك دون أن ننبس بنت شفة ، ولعل المدام قد شعرت بغريزتها بذلك ، فقد أشارت علينا بالعودة قبل أن يهبط البرد ، فأخذنا الطريق إلى المنزل صامتين ..
ولما حييت مرغريت تحية المساء ، وأنصرفت إلى غرفتها وأغلقت عليها بابها ، وقفت برهة أنظر إلى هذا الباب الموصد دونى .. وقلبى يزداد خفقانه ويشتد ..
واحتلت مرغريت بعد هذه الليلة مركز شعورى .. ونفذت صورتها إلى سويداء قلبى ، وكنت أراها فى كل مكان .. أنام وصورتها فى ذهنى وأصحو وصوتها يرن فى أذنى .. لقد استولت على كيانى ، وغدت امرأة أحلامى ..
***
وألفيتها ذات ليلة ساهرة تكوى بعض الملابس .. وكانت هذه هى المرة الأولى التى أشاهد فيها مرغريت وحدها ، فان عين العجوز لا تنام أبدا ! ..
وجلست أحادثها ، وأشترك معها فى عملها .. وهى تضحك وترفع المكواة الحامية فى وجهى لأبتعد وإلا وضعتها على قلبى .. !
ولما فرغت من عملها أشرت عليها بأن نجلس قليلا فى الشرفة حتى نشعر بالنوم .. فنظرت إلى غرفة أختها المظلمة لحظات .. ثم مضت معى ..
وجلسنا نتحدث فى الظلام .. وطوانا الليل فى جلبابه .. واستغرقنا فى الحديث ، وغفلنا عن كل شىء فى الوجود ..
وشعرت لأول مرة بالسعادة الحقة تهز مشاعرى وترقص قلبى .. حتى خيل إلىَّ أن لا أحد سوانا فى المنزل ، وأن أختها رقدت رقدة الأبد ..
وبعد تلك الليلة انمحت الفواصل ، وانزاحت الستر ، وتبددت الظلال التى كانت بينى وبين مرغريت .. وامتزجت روحانا .. وازداد وجدى بها حتى أصبحت لا أقوى على فراقها لحظة ..
فكنا نخرج إلى المدينة فى الصباح ، ونستريح فى البيت وقت الظهيرة .. ونتنزه فى المساء على ساحل البحر بين المندرة وسيدى بشر .. بعيداً عن الناس فإذا حان وقت النوم رجعنا إلى البيت.. وافترقنا أمام المدام .. !
ويظل كل منا ساهرا فى غرفته حتى ينطفىء النور فى غرفتها وينقطع حسها .. وهنا تفتح مرغريت باب غرفتى فى رفق وحذر شديدين .. وتهمس .. ووجهها يشرق فى الظلام :
ـ فتحى .. هل أشعل النور .. أو أهتف بالمدام .. ؟ فتحى هل أنت فى حاجة ..
فأطوقها بذراعى وأغمر فمها بقبلاتى ، ونظل نتناجى ونحلم حتى تبدو خيوط النور فى الأفق ..
***
وكان عندها مجموعة من الصور تمثلها فى مختلف أطوار حياتها .. فقدمتها لى .. وأخذت أقلب المجموعة وهى جالسة بجوارى .. فرأيت صورتها وهى طفلة صغيرة فى بودابست .. وجزيرة مرغريت ..
وسألتها :
ـ هل سميت جزيرة مرغريت بإسمك .. لأنك أجمل فتاة فى المجر ..
فضحكت وقالت :
ـ فى المجر .. فقط .. ! ؟
ـ فى العالم يا مرغريت ..
فقبلتنى فى فمى وهى طروب .. ومضيت أقلب الصور حتى استوقفتنى صورة فتاة شديدة الشبه بها ..
فسألت مرغريت عنها .. فنظرت إلىَّ ثم أطرقت وراعنى أن وجهها قد اكتأب وعلاه الوجوم .. وتحير فى عينيها الدمع .. فطويت الصور .. ورفعت وجهها إلى وجهى ..
فارتمت على صدرى وهى تنتحب .. فأخذت أمر بيدى على شعرها وأغمرها بقبلاتى .. حتى هدأت .. ثم رفعت وجهها إلى وقالت :
ـ أعرفت صاحبة الصورة .. ؟
ـ أجل يا مرغريت .. وآسف لحماقتى ..
ـ لا تقل هذا ولماذا أكتم عنك .. لقد أصبحت عندى أكثر من أخ .. أنها أختى .. لـ .. وقد انتحـ ..... أنتحرت .. كانت صغيرة .. وغريرة...... وعشـ ..... عشقت زوج أختها .. زوج المدام ..
ووضعت يدى على فم مرغريت .. بعد أن رأيت جسمها عاد يهتز ويرتجف .. ولم أكن أود أن أسمع شيئا عن هذه المأساة .. وأدركت كل شىء يتصل بهذه المرأة الغريبة ، وعرفت علة نفورها من الرجال وعزلتها المطلقة عن الناس .. أدركت كل هذا بسرعة وأخذت أحادث مرغريت فيما يصرفها عن هذه الذكرى حتى هدأت ، فخرجنا لنتنزه ..
***
ومرت الأيام سراعا ونحن فى سعادة لا تقدر .. وكنا نمضى معظم الليل فى الغرفة نتسامر ولا نحس بأن فى العالم سوانا .. وانمحى كل شىء .. فينا ونسينا مدام « ت » التى أدركت كل شىء وعرفت كل أمر وصمتت ..
كانت تعرف أن الكلام لا يجدى .. وأننا مستغرقين فى حلم لا نصحو منه أبدا .. وكانت مرغريت تدرك أيضا حال أختها .. فيعتريها سكون ووجوم ، وتطوقنى بذراعيها وهى ترتجف وتبكى ..
وشعرنا مع الأيام بنظرات المرأة تشتد وتحتد وجو البيت قد تكهرب ، وأصبح خانقا .. فكنا نمضى الساعات فى صمت ..
وقررنا ذات ليلة العودة إلى القاهرة .. لنقضى معا ما بقى لنا من عمر .. وشعرت بعد هذا القرار بالهدوء المقرون بالسعادة الحقة ..
وأخذت أرتب الحقائب ، وأعد كل شىء للرحيل .. وذهبت إلى المدينة وتركت مرغريت تهىء نفسها للسفر ..
وعدت إلى المنزل فى ساعة متأخرة من الليل وأنا سعيد حالم .. وحاولت النوم فلم أستطع فقد طيرت السعادة النوم من عينى .. فرأيت أن اذهب إلى غرفة مرغريت .. وأوقظها لنقضى ما بقى من الليل معا ..
ونهضت من الفراش .. وفتحت باب غرفتى وتقدمت ، على أطراف أصابعى فى الردهة .. حتى قربت من باب غرفتها ، وهنا وصل إلى سمعى صوت بكاء مختنق .. وصوت مرغريت وهى تتحدث بصوت خافت ، فأدركت أن أختها معها فى الغرفة .. وساورنى القلق وأنصت .. فإذا بالحديث يخصنى فوقفت فى وسط البهو ذاهلا شاردا .. وأنا لا أسمع إلا بكاء المرأة المختنق وصوت مرغريت وهى تهدئها بصوت خافت ثم سمعتها تبكى معها .. فأحسست بقلبى يتفطر لوعة وأسى ..
وسمعت المرأة تقول لأختها وهى تنشج ..
ـ لا تتركينى وحدى .. بعد كل الذى حدث .. لقد وجدتك أخيرا .. وأصبحت وما لى فى الوجود سواك .. فلا تتركينى وتذهبى معه ..
وارتفع النحيب .. وتكرر الرجاء .. وأنقطع الصوت .. وخيم صمت القبور ..
وتحاملت على نفسى حتى بلغت غرفتى .. وتمددت على السرير وجسمى يحترق ورأسى يشتغل والعرق يتصبب على جبينى .. وعيناى فى وقدة الجمر .. وأطرافى تتقلص .. والسيجارة تنتفض بين أناملى .. والأفكار تموج فى رأسى وتتصارع ..
لقد من اللّه على بالسعادة بعد شقاء طويل فهل أرفضها فى سبيل امرأة فى عداد الموتى .. حية كميتة لا فائدة من وجودها ، ولا خير يرجى منها ، لقد انقطعت صلتها بالحياة وصلتها بالناس ، وتقطعت بها الأسباب ..
فما ذنب هذه المسكينة وهى فى نضرة عمرها .. ورونق صباها حتى تشقى مع هذه المرأة الشقية إلى الأبد .. هل إذا انتزعتها منها سأنتزع نفسها .. هل أذهب بحياتها .. ولماذا لا أذهب بحياة من لا يصلح للحياة ولا تصلح له .. وقفت عند هذا الخاطر العاصف أترنح .. وهل يمكن أن نظل سعيدين بعد هذه المرأة .. أنها ثالث لا ينفصل عنا ولا يتجزأ .. إنها فى حياتها ومماتها .. شئنا ذلك أو لم نشأ ..
وانطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى سريعة كالنمر المحبوس فى عرينه .. والأفكار تشتعل فى جمجمتى وتعصف ، حتى شعرت بمثل الحمى تسرى فى عروقى وبحلقى يجف .. فاتجهت من غير وعى إلى المطبخ لأشرب..
ووقع بصرى وأنا أدير صنبور الثلاجة على بلطة معلقة فى الحائط .. رباه .. هلى أمسك ببلطة رازكو لنيكوف(*) وأحطم هذه الجمجمة .. وأمسكت بالبلطة .. ! فأحسست بثقلها وأخذت يدى ترتعش ، وجسمى يهتز والعرق يتفصد .. رحماك يا سيد الكتاب ليس بين أعقل الناس وبين الجريمة غير قيد شعرة .. !
هل أقتل هذه المرأة ، وأقتل مرغريت ، وأقتل نفسى .. وتفتحت عيناى فى رعب وجزع .. واشتد الظلام ولم أعد أرى شيئا ..
ووجدت نفسى ممددا على فراشى والعرق يتصبب .. فاستويت على قدمى ، تحت ثورة الحمى ، وأمسكت بحقيبتى .. وخرجت أضرب فى ظلام الليل على غير هدى ولا سبيل ..
=======================================
(*) بطل الجريمة والعقاب لدستوفسكى .

===============================
نشرت القصة فى مجموعة " فندق الدانوب " لمحمود البدوى سنة 1941 " وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================



سكون العاصفة

       كان خالد أفندى يتردد على مقهى " الحرية " فى مدينة المنصورة أصيل كل يوم ، ومع أن المقهى يشرف على النيل ، ويقع فى أجمل بقعة فى هذا البلد ، فإنه لم يحاول مطلقاً أن يملأ عينيه مما حوله من جمال وسحر .. فهو لم يشاهد منظر غروب الشمس فى النيل ، ولا طلوع القمر من وراء السحاب ، ولا الزوارق الشراعية وهى تسبح فى ظل الغسق .. كما أنه لم يعبر جسر طلخا قط ، ويرى ما وراء الجسر من مناظر خلابة فى مدى السنين التسع التى قضاها فى المنصورة منذ أن نقل إليها كاتبًا فى تفتيش الرى ..!
       وكان يجلس على ناصية الطريق زمن الصيف ، فإذا جاء الشتاء ، انتقل مع الجالسين إلى الجزء الشتوى من المقهى ، على الرصيف الآخر من الطريق ، وألقى بنفسه فى مكان ضيق يعج بالخلق ويزهق الأنفاس .. هذه المقاهى الغريبة المنتشرة فى طول البلاد وعرضها تضم خلقاً عجيبًا من صعاليك الأرض ، ومحترفى النرد ، وأصحاب العقول الذهبية الذين يدخلون أنوفهم فى كل شيء على ظهر البسيطة ، وينتقدون أنظمة الاجتماع الإنسانى قاطبة ..! ويشعرون بأنهم ضحية نظم فاسدة لا سبيل إلى إصلاحها ، فما يعوزهم هو شيء خارج عن نطاق البشرية وحدودها ، على أن خالد أفندى كان يختلف عن هؤلاء جميعاً ، فهو رجل قد جاوز بسنه عمر الشباب ، وحاد بتفكيره عن تفكير المخبولين ..! .. بيد أنه كان يتفق معهم فى الحيرة والقلق ، والشعور المطلق بالنقص أبداً ، ولهذا ظلت حياته تسير على منوال واحد ممل معذب .. وكان قد أدرك الجيل الذى يتزوج فيه الشبان قبل الأوان ، فتزوج معهم وأنجب .. وكان زواجه من فتاة طيبة من أسرة كريمة ، والأسر الكريمة كثيرة الود ، فالزوجة عند عماتها وخالاتها ، وخالات عماتها وعمات خالاتها ، كما أنهم محط الرجل فى المدينة لكل من يشرف المدينة من الأهل والصحب .. ولهذا فر خالد أفندى من المنزل إلى المقهى ، وقعد على حافة الطريق يرقب الرائحات والغاديات بعين عطشى ..
       ولما امتد لهب الحرب ، وكثر عدد المهاجرين إلى الشرق .. اكتظت المنصورة بالخلق وازدحم منزل خالد أفندى بأفراد أسرته من المدن المعرضة لشر الغارات ، فلما مضت الأيام على غير حادث .. وقفت حركة الهجرة .. وسئم المهاجرون تكاليف العيش الجديدة ورجعوا إلى بلادهم بالتدريج ، ورحل ضيوف خالد أفندى ورحلت معهم زوجته ، فقد رافقت أختها إلى القاهرة ، وهكذا أصبح خالد أفندى وحيدًا فى المنصورة ، أو أعزب إلى أجل ..! وتنفس الصعداء .. وشعر بالحرية المطلقة فى غدوه ورواحه ، وراح يحن إلى أيام شبابه ولهوه ..
       وكانت تمر أمامه ، بعد غروب كل شمس ، فتاه رائعة الحسن جذابة الملامح ، من هؤلاء اللواتى تدفعهن الفاقة إلى العمل .. كانت تبيع الحلوى ، وتمر على الجالسين فى المقهى ضاحكة مازحة .. وكانت تخص خالد أفندى ببعض وقتها ومزاحها ، لأنه رجل وقور ، حسن السمعة ..! وكان يمازحها ويتلطف معها فى الحديث ، ثم يشيعها بنظراته النهمة ، وكان جسمها أكبر من سنها .. بارز المفاتن رائع التكوين .. وفى عينيها بريق وإغراء قل أن يجتمعا فى عين امرأة .. وكان خالد أفندى يدرك هذه المحاسن كلها ولكنه كان يرد نفسه عنها تورعًا .. على أنها لما مرت أمامه فى ذلك اليوم تنثنى وتميل بجسمها وعلى شفتيها الرقيقتين ابتسامة .. وفى عينيها ذلك البريق الأخاذ .. استوقفها وابتاع منها بعض الحلوى ، وهو يضاحكها ويداعبها ، ثم همس فى أذنها كلامًا .. فتورد وجه الفتاة .. وغضت رأسها .. ثم مضت عنه ، وهى تهز رأسها ضاحكة .. وغابت فى جوف الظلام ..
       وظل ساكنًا فى مقعده لحظات ، وهو ينفض المكان بعينيه ويرقب .. ثم اندفع فى الطريق الذى سارت فيه ، وقد زاده تمنع الفتاة حماسة وثورة .. وأوسع المجال لخطاه لما اجتاز المقاهى المتناثرة على حافة النهر حتى بدأ يلهث ونفض جسمه العرق .. يالله .. إنه يسير الآن فى الطريق الذى كان يتنزه فيه مع زوجته وأولاده مساء كل خميس حتى يبلغوا شجرة الدر..! لقد مات الآن فى نظره كل شيء وانمحت الذكريات وأسدلت الستر على الماضى كله بخيره وشره .. وأصبح لا يرى الآن تحت تأثير العاصفة التى ألهبت جسمه وأشعلت النار فى كيانه ، غير نساء عاريات سابحات فى النهر يتضاحكن ويهتفن به ..!
       وبصر بها وهى تجتاز ميدانًا صغيراً على رأس الطريق ينعطف إلى المدينة ، فجمع حواسه فى باصرته ، وانطلق فى أثرها ..
***
         ومضى معها تحت ستار الظلام إلى البيت ، ودارت ببصرها فى جوانب القاعة فى تهيب وخجل .. ثم جلسا للعشاء .. فأرغمها على الشراب فزال عنها حياؤها بالتدريج ، وتفتحت نفسها ، فانطلقت تغنى وتتبختر فى أرض الغرفة كالطاووس الجميل ..
       ولعبا بعد ذلك الورق .. وتكدست أمامها أكداس القروش ..! فرمقته بعينيها وسألته وهى سكرى :
       ـ هل تعطينى كل هذه النقود حقًا ..؟
       فضحك وطمأنها ..
       وظهر عليها التعب وبدأت تتثاءب .. ورف لون وجهها من فعل الخمر .. وانفرجت شفتاها .. واحمرت عيناها .. وثقلت أهدابها .. وتفككت أوصال جسمها .. فارتمت على أريكة بالقرب من المائدة وظلت تحادثه من حين إلى حين ، وتنظر إليه بعينيها الناعستين ، حتى أحست بلين الفراش فنامت ..
       وبقى فى مكانه يحتسى القهوة ويدخن ، وعيناه سابحتان فى قرار الكأس .. ثم رفع بصره إليها ، وهى نائمة حالمة ، وقد تهدل شعرها ، وتوردت وجنتاها ، وظهرت على وجهها كله آيات الطفولة البريئة ، وانمحت تكاليف العيش ومظاهر الصنعة من جسمها ونفسها .. فأشرق روحها وبدت على فطرتها .. وبان لون جسمها فى بياض العاج ونعومة الحرير .. وكانت إحدى ذراعيها تحت رأسها والأخرى عند خصرها .. فتحرك الجسم قليلاً وارتفعت الذراع حتى جاوزت العنق ، وغاصت الأنامل الرقيقة فى الخد المورد ، وانحسر الثوب عن الساق ، وانزاح الشعر عن الجبين واهتزت الشفتان قليلاً ، وتحرك الجسم حركة من يود الصحو ، على أن الأهداب بقيت مطبقة .. والأجفان مسبلة .. والنفس هادئا حالماً ..
       ونظر إلى هذه الصورة الرائعة وهو سادر ساهم ، فنهض عن مقعده ووقف أمام النافذة المغلقة ، وفتح مصراعيها ، ومر هواء الصيف المنعش على وجهه ، وأشرف على الليل وأطل على الوادى الصامت .. ورأى لأول مرة فى حياته محاسن الطبيعة ، وبدائع ما أبدع الله وصور ، واعتمد بجسمه على النافذة وبصره يخترق حجب الليل ويعبر النيل والجسر وما وراء الجسر ، حيث تتجلى الطبيعة فى أروع صورها ، وسبحت عيناه فى الظلام واستغرق فى تأملاته ومرت فى ذهنه صور كثيرة واضحة وغامضة .. الحرب .. والغارات .. والريف والقرية .. وزوجه وأولاده .. وشعر بطراوة الهواء ولينه وهو يصافح وجهه ، وبجسمه يعود إلى حالته الطبيعية ، ورأسه يصفو من فعل الخمر ، فانثنى عن النافذة ، وانطلق يتمشى فى أرض الغرفة ، وعينه على الفتاة النائمة ووقف أمامها لحظة .. ثم انحنى عليها ، وحملها على ذراعيه كطفل صغير ، ومشى بها إلى مضجعه ، وأضجعها على السرير بحنان ورفق ، وأسدل على جسمها ملاءة خفيفة ، وأبقى وجهها الناضر عاريًا ، وانسحب من الغرفة سائرًا على أطراف أصابعه ..!!
       ونام على أريكة فى الردهة نومًا عميقًا هادئًا تشوبه ألذ الأحلام ..
============================
نشرت القصة فى مجلة الرسالة بالعدد 403 بتاريخ 24/3/1941 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
===========================








اسم القصة                       رقم الصفحة 
فندق الدانوب     .....................   2
سائق القطار     ...................     8
ليلة فى الحان  ......................   17
صوت الدم  .........................   36
طريق الفناء .................. .....   56
الزوجة المصونة         ...........    64
الحب الأول............   ....  ......  68
من أيام الصبا  ................        78
بعد العرس  ........................   87
امرأة أحلامى .......................   96
سكون العاصفة  ...................    107